ملفت وفيه الكثير من الدلالات المحزنة، ذلك المنطق الذي يحكم النقاشات الدائرة حول السفر عبر مطار "رامون".
إنه منطق الارتهان "لخيارات" الاحتلال بل والمفاضلة بينها. نذهب لرامون لان السفر عبر الجسر مذل، أو لأن غيرنا يسافر عبر مطار اللد.
ننسى في وسط هذا النقاش أن المعركة مع الاحتلال ليست فقط "معركة تحرير"، وإنما في طريق الوصول الى وطن حر هناك كم هائل من المعارك اليومية التي يجب تحقيق نصر فيها. فالمسألة ليست "خيارات" احتلال، وإنما التسمية الأكثر دقة هي "سياسات" احتلال، سياسات التحكم والضبط والسيطرة والاستنزاف والكسر والهزيمة الداخلية للفلسطيني الفرد قبل الجماعة، وبالتالي عدم مواجهة هذه السياسات بصراع يومي حياتي، يعني أن الوطن الحر مازال بعيدا جدا.
كل ما نتناقش حوله اليوم بمنطق "الخيارات" و "المفاضلة" يأتي ضمن معركة اسمها "الحق في الحركة". هذا حق شعب يخضع للاحتلال وعليه أن "ينتزعه" في طريق انتزاعه الحق النهائي "التحرر".
لذلك ماذا لو تم استثمار هذا الاهتمام الكبير اليوم ب "سفر الفلسطيني" ونظمت حراكات شعبية ما لتغيير إجراءات السفر على الجسر على سبيل المثال. حراك طويل وجدي ومنظم، أو أي خيار آخر، ولكن المهم أن يكون بإرادة الفلسطيني ونضاله
النصر الحقيقي هنا لا يكون فقط في "حرية الحركة"، وإنما في الإفلات من "سياسات الضبط والسيطرة" التي يمارسها الاحتلال وقلب معادلته هذه بتأكيد أن الفلسطيني ليس موضوعا للضبط والتحكم. هذا هو المنطق الذي يجب أن يحكمنا بدل منطق "الارتهان والمفاضلة".
بمناسبة الحديث عن "الحق في الحركة". في الانتفاضة الثانية انتهجت إسرائيل سياسة الحواجز بين المدن والقرى، وكانت من أشد سياسات الضبط والتحكم وأكثرها إرهاقا للفلسطيني. والملفت والمؤسف حينها، أننا كنا ذواتا سهل التحكم بها، حيث وبدل مواجهة كل حاجز بالإصرار على المرور ضمن معركة مضادة مدروسة، كنا مباشرة نشق طريقنا في الجبل المجاور للحاجز، حتى تغيرت في النهاية جغرافية الضفة الغربية بنجاح سياسة الحواجز هذه. قلنديا هذا "المعبر" بدأ بمكعب اسمنتي وجندي، وبدل مواجهته وهو مجرد مكعب اسمنتي، "تأقلمنا" لسنوات مع العبور مشيا من "طريق الكسارات" المجاورة، ولم ننتبه حينها أن الجندي يرانا ويغض الطرف عنا!!
في المقابل هنالك استثناءات حقق فيها الفلسطيني النصر على الحواجز حينها، تتمثل في حاجز "عيون الحرامية" و "عين عريك".
واحد من أسرار عبقرية الانتفاضة الأولى هي في قدرة الفلسطيني اليومية على مواجهة سياسات الاحتلال اليومية، لم يكن يوما الفلسطيني موضوعا سهلا للتحكم والضبط. ابتدع فكرة التعليم الشعبي لمواجهة سياسة إغلاق المدارس والجامعات. والأمثلة كثيرة لمن يبحث عنها. وهذا هو جوهر الصراع اليومي مع الاحتلال، أن لا يكون الفلسطيني موضوعا سهلا للتحكم والضبط. لذلك ليس المهم من أين نسافر، ولكن الأهم أن يكون لارادتنا ونضالنا دور ما في طريق وإجراءات سفرنا. لنؤكد أننا ذوات حرة وإن كنا تحت الاحتلال.
يجب أن يشعر الاحتلال دائما أن سياساته ليست سهلة التطبيق على ذوات خاضعة. عليه أن يشعر أنه في معركة يومية وشاقة.
على الهامش: أحيانا أفكر لماذا هذا الانبهار المجتمعي بشباب صغير يناضل في جنين ونابلس بقدر ما يستطيع؟ هل حاجتنا الى البطولة؟ ربما! وربما أيضا لاننا نراهم أحرارا بينما نحن نعيش في مركز سياسات الضبط والتحكم. ننبهر بهم لأنهم يعيشون في عالم موازي لعالمنا، لانهم ما نتمنى أن نكون عليه، أو لانهم ما كناه يوما قبل التيه والضياع الكبير.