طبيعة المجتمعات التي يتم تكوينها من خلال أقليات وإثنيات متعددة؛ تعمل على إنشاء تشكيلات عصائبية من أجل تنظيم نفسها والمحافظة على هويتها الأصلية والعرقية، كما يتم تشكيل الأحزاب ضمن القانون لتمثل تلك التشكيلات أمام الهيئات السياسية الحاكمة وأهمها البرلمان، لتعبر بشكل عام عن هويتها الأصلانية.
ما بين هذه وتلك، تقف فئة لا بأس بها من أفراد هذه التكوينات لتعبر عن نفسها من خلال منظمات الإجرام العنيفة، ومع كون حالة الإجرام مسألة اجتماعية لها أبعادها وأبجدياتها ولم تنفصل عن التاريخ يومًا، ويتم محاربتها دومًا من خلال منظومات الحكم المسيطرة على الجغرافيا هنا أو هناك، إلا أنها تأخذ زخمًا آخرًا عندما تكون داخل مجتمعات الفسيفساء، فبعضها يتكون كردة فعل على جماعة منافسة من أقلية أخرى، أو حاجة أساسية لتوفير الأمن والاحتياجات الاقتصادية داخل الأقلية، أو في بعض الحالات رفض منظم لسيطرة السلطة الحاكمة.
الكيان الصهيوني تم بناؤه من عديد الأقليات اليهودية أو المتهودة، بالإضافة إلى بقايا التواجد الفلسطيني الأصيل في الداخل المحتل عام 1948م، والذي لم يستطع الكيان الصهيوني خلعه من جذوره وإخراجه من أرضه، بالإضافة إلى أقليات مهاجرة، مثل الجالية الروسية الكبيرة إلى حدٍّ ما، والجالية الأثيوبية الصغيرة إلى حدٍّ ما، هذا المركب المتعدد والمختلف حاول الكيان الصهيوني منذ نشأته على صهر هذه الأقليات والإثنيات ضمن حدود القانون والدولة، وبشكل محدد ضمن حدود المشروع الصهيوني القائم في البلاد، إلا أنه وعلى ما يبدو لم ينجح في ذلك، لكن وفي بقعة الكيان الصهيوني الجغرافية الصغيرة ذات المساحة المحدودة، بمحيطها المعادي لكل ما يعنيه الكيان وتركيبته السكانية المشوهة، خرجت بفعل الاحتكاك السلبي بين المنظومة الحاكمة والأقليات العديدة إلى السطح مسألة العنف المجتمعي، وبالأخص منظمات الإجرام المختلفة.
مؤخرًا ومع تصاعد الفعل الإجرامي وخصوصًا داخل المجتمع العربي الفلسطيني، وانتقاله إلى مستويات خطيرة، عدا عن القتل بأنواعه وأساليبه، إلى اقتحام القواعد العسكرية وسرقة السلاح منها، وعمليات الابتزاز داخل المجتمع الفلسطيني وخارجه، إلى فرض السيطرة على الأرض داخل التجمعات العربية الفلسطينية، وصولًا إلى خوض مواجهات شعبية مع الكيان الصهيوني وأجهزته كما حصل في هبة مايو آيار من العام الماضي، وإطلاق الحجارة على سيارات اليهود في الطرق السريعة بشكل متكرر في الجنوب الفلسطيني المحتل، وحرق 18 باص في القرى الفلسطينية المحتلة، اعتبر كل ذلك وغيره عند المقدر الأمني في المنظومة الصهيونية أنه صراع لإثبات وجهة نظر محددة، وهي "من هو المسيطر على الأرض".
الخطورة بالنسبة لوزارة الأمن الداخلي المسؤولة عن السكان داخل الكيان الصهيوني لا تنبع من مدى تأثير عصابات الإجرام داخل المجتمع الفلسطيني على سياقه الحياتي اليومي، كون ذلك في العقل الصهيوني يساهم في إضعاف المجتمع الفلسطيني ويسهل السيطرة عليه، لكن الخطورة هنا في انتقالها من داخل السياق الإجرامي المحدد في المجتمع الفلسطيني إلى بعدين مهمين لا يمكن السكوت عنهما، الأول البعد القومي والثاني البعد الثقافي.
أما البعد القومي فإنه يقوم على فرض وقائع جديدة على الأرض بشكل يومي من إلقاء الحجارة في الجنوب الفلسطيني إلى الشمال المحتل، -ونحن هنا للتذكير لا نتحدث عن الضفة الغربية وسرقة السلاح من قواعد الجيش الذي يذهب منه نسبة كبيرة لفصائل المقاومة في الضفة الغربية-، إلى معركة رفع العلم الفلسطيني في الداخل المحتل الذي يعبر عن الهوية قبل أي شيء، المخاوف من أن إلقاء الحجارة اليوم قد ينقلب إلى إطلاق نار غدًا، وهذا أساس المشكلة كما يعتقد المقدر الأمني الصهيوني.
أما البعد الثقافي فهو المتعلق بالجهة التي يتم تقديم الاحترام لها داخل المجتمع الفلسطيني، ونحن نتحدث عن الاحترام ليس بمفهومه الأخلاقي بل ببعده الاجتماعي والسياسي، فالقوي مثلًا يحصل على الاحترام، والبطل والمغامر المتحدي للقانون أيضًا يحصل على الاحترام، هذا الاحترام يكون أدوات تواصل جديدة تقوم على تبعية الضعيف للقوي، كونه المحترم هنا وصاحب مظلة الحماية التي يريدها الفرد.
السؤال: أين الدولة والسلطة في كل ذلك؟
في نظر القوي الذي يصنع احترام الناس له لا يوجد للدولة وقانونها مكان في حساباته، وهذا يشمل جميع مركبات المجتمع الصهيوني بشكل من الأشكال، وعليه إلى أي مدى سيقود العنف داخل الاحتلال بين المركب الاجتماعي الواحد أو مع المركب الآخر إلى تفكيك بنية الكيان وهدم المشروع الصهيوني القائم؟، وفي السعي للوصول إلى الإجابة، ما هو دور المقاومة الفلسطينية في رعاية هذه الحالة من الفوضى والتحريض عليها داخل الكيان الصهيوني بما يخدم مشروعها المقاوم؟، يبقى السؤال مفتوحًا حتى يسجل التاريخ إجابته ضمن سياقاته المتقلبة، والتي ستقودنا هنا إلى من سيصنعها.