لا يخفى على أحد حجم الانشداد في الأنظار والأفئدة من كل فلسطيني ومقاوم وعربي وحُر إلى القدس، هذا الانشداد الذي تصاعد وتضاعف مع جرعات كبيرة من الأمل والعنفوان بعد معركة "سيف القدس" التي دشنت مرحلة جديدة في طبيعة وشكل المواجهة في القدس، ارتبط فيها ما يحدث في شوارع وأزقة وأحياء القدس، وبطبيعة الحال مع خصوصية مضاعفة للمسجد الأقصى وباحاته وبواباته مع كل فلسطين، مع غزة واللد وأم الفحم ونابلس وجنين ورام الله وطولكرم والنقب، أي فلسطين على امتدادها التاريخي، موحدة كل ما حاول الاحتلال تفريقه وتجزئته على مدار سنوات من التفتيت والردع والتدجين بكل ساحة وتجمع على حدة.
لربما من المجحف أن نحصر الانتفاض الثوري للمقدسيين بالسنة الأخيرة، فهم سطروا ملاحم بطولية يُشهد لها في طول النفس والعزيمة لم يكن أولها معركة البوابات الإلكترونية بالعام 2017م، ولا آخرها المواجهات الدائمة للحفاظ على هوية باب العامود، والصمود البطولي لسكان الشيخ جراح وسلوان في مواجهة محاولات التهجير والتمدد الاستيطاني، إلا أن العام الأخير كان عام المواجهة الشاملة، التي أصبحت فيه القدس تُفجر كل المنطقة، ليس فلسطين فقط، بل الإقليم كله، فما خطه أهل القدس بتضحياتهم، عمدته مقاومة غزة ببطولات مقاتليها وعزيمة قيادتها ودماء أبنائها، وحملته جماهير الداخل المحتل ورصاصات كتيبة جنين ومقاومو الضفة، ودشنه المحور، محور القدس لتكون القدس عنوان كل اشتباك ومواجهة.
في مسيرة شعبنا على مدار كفاحه ونضاله المعاصر كثرت المحطات التي تقدمت فيها قضيتنا فترات، وتراجعت فترات أخرى، تصاعد فيها نضال شعبنا لسنوات، وتراجع لسنوات، ولربما السنوات التي تلت انحصار انتفاضة الأقصى كانت من الأسوأ في الفعل الفلسطيني بشكل خاص في الضفة المحتلة والقدس، إلا أن محاولات الاستنهاض في السنوات الأخيرة بلغت مراحل توجتها معركة سيف القدس، وحتى لا نقع في أخطاء الأجيال التي سبقتها، فمن المهم أن نقف بكل محطة لنقيم أين أخطأنا وأين أصبنا، واليوم وبعد حدث ترك آثاره في نفس كل فلسطيني، يهمنا أن نقف مع الذات لنكرر السؤال، في معركتنا المستمرة وفي قلبها معركتنا في القدس، أين أصبنا وأين أخطأنا؟؟
أولاً: أين أصبنا؟
أصبنا عندما قلنا إن ارتباط الساحات أساسي ومحوري في معادلة الصراع، في إعادة الاعتبار لفلسطين التاريخية من نهرها إلى بحرها، في إسقاط كل مشاريع وأوهام التسوية، في إنهاء فلسفة خصوصية كل تجمع فلسطيني، ومواجهة سياسة تقليص الصراع والحلول الاقتصادية الصهيونية والرشاوي الهادفة لتدجين كل بقعة فلسطينية على حدة بمعزل عن القضايا الكبرى.
أصبنا عندما قلنا إن ما قبل سيف القدس ليس مثل ما بعده ولا يمكن أن يكون مثل ما بعده، فهي مرحلة جديدة بعد هوان وتراجع لسنوات سادتها محاولات التطويع وكي الوعي وخلق الفلسطيني الجديد، ولا يمكن أن نعود إلى الوراء، فما داسه شعبنا بأقدامه من مخططات الأسرلة وقبول الاحتلال والاستسلام لواقع الاحتلال والتهويد والاستيطان، لا يمكن أن يعود ليكون هو السائد.
أصبنا عندما قلنا إن القدس في قلب الصراع، وإن تهجير أهلها وتهويد مدينتها وأحيائها وجرائم الاحتلال المتصاعدة فيها لا يجب أن تمر، بل ستواجه بعزيمة كل الشعب الفلسطيني وإرادته التي لطالما فاجأت العالم الأجمع، فإن مرّ هذا الشعب بمراحل من المد والجزر، إلا أن عزيمته دائماً تنتصر، ومخزونه الثوري أضخم من أن يُحتوى.
أصبنا عندما ثبّتنا أن المقاومة في غزة، ليست مقاومة غزاوية، بل هي مقاومة فلسطينية لكل الشعب الفلسطيني، تدافع عنه في كل أماكن تواجده، وسلاحها يعرف بوصلته بوضوح، فهو حاضر من أجل القدس والنقب وجنين واللد وكل مدينة وقرية فلسطينية، وفق متطلبات الحاجة وإمكانيات التدخل، فالأكيد أنه جزء من أي معادلة مقاومة فلسطينية.
أصبنا في كل ذلك، وعلى مدار عام كان الشعب الفلسطيني في كل الميادين يقطع الشك باليقين بأنه شعب حي ومقاوم وثائر، فكان عام من أكثر الأعوام زخماً في الفعل الثوري شهد عودة للعمل المسلح في مدن ومخيمات وقرى الضفة بعد غياب لسنوات، عام حشد فيه الداخل قواه في الزحف للمسجد الأقصى والرباط فيه والتصدي لقطعان المستوطنين وجنود الاحتلال في باحات المسجد وأزقة القدس، وحمل أبناؤه السلاح وضربوا قلب الكيان في مقتل معلنة أن كل الخيارات مفتوحة أمام شعبنا في الداخل في مواجهة تصاعد العدوان الصهيوني، وهو عام شهد تصاعدا وتنام للفعل الفلسطيني المقاوم في الشتات، وبشكل خاص في لبنان التي بادر الكيان بالصواريخ في أكثر من محطة بسيف القدس وما بعدها، ليعيد الاعتبار للفعل المقاوم بالشتات، عام أجبر فيه الكيان على تغيير مخططاته مرات ومرات في الشيخ جراح وسلوان والمسجد الأقصى تجنباً للمزيد من تصاعد المقاومة.
وأصبنا حيث قلنا إن الرهان هو كل على الشعب في كل أماكن تواجده، وهو ما دللته عدد نقاط الاشتباك وتوسعها في الرد على مسيرة الأعلام الصهيونية، رغم كل الإجراءات الصهيونية وحملات الاعتقال الموسعة وأوامر الإبعاد والغرامات والتهديدات بالاغتيال، اشتعلت نقاط الاشتباك على امتداد الضفة المحتلة والمواجهات في شوارع وأزقة القدس.
ثانياً: أين أخطأنا؟
أخطأنا حينما لم نفصل بوضوح، هل مهمة غزة ومقاومتها أن تحل محل كل الساحات، أم تتكامل مع باقي الساحات، وهل قدرتها التي تطورت وتعاظمت أصبحت لا تُرد وأعظم من أي حساب، لا تأخذ بعين الاعتبار الاعتبارات الميدانية ولا الأمنية ولا اللحظة السياسية؟، ومتى نريد من مقاومتها أن تُسقط كل الاعتبارات وتفتح نيرانها وتطلق العنان لصواريخ ومقاوميها، وما هي خطوطنا الحُمر التي تستوجب الانفجار الشامل؟
أخطأنا حينما لم نضبط خطاب بعض قادة الفصائل والمتحدثين باسمها وصناع الرأي المحسوبين عليها في المغالاة ورفع السقف حول شكل التعامل مع مسيرة الأعلام ومع الاعتداءات الصهيونية متجاوزين حقيقة التقدير والقرار والوجهة، فلم يوفق الكثيرون في خطاباتهم التي هدفت بالأساس لشحذ الهمم وتحولت لخلط واضح ما بين الرهان على المقاومة الشاملة بكل أشكالها لكل شعبنا، وبين حصر الفعل المقاوم في رد المقاومة العسكري من غزة.
أخطأنا حينما لم نحدد بوضوح، أن لا قواعد اشتباك بالقدس، بل هناك مسلسل عدواني صهيوني متصاعد ومستمر، وشعب مقاوم يتصدى ويتحدى ليسكر حلقات العدوان والتهويد، واثق بأن المزيد من المقاومة ستردع الاحتلال عن المزيد من التهويد والإجرام، وصولاً لتغيير المعادلة لصالح شعبنا وقضيتنا العادلة.
أخطأنا حينما لم نحسم الجدل، فالمقاومة في غزة موجودة وحاضرة وهي جاهزة بعتادها وعديدها لبذل الغالي والنفيس في إطار معركة الشعب الفلسطيني من أجل التحرير، وهي مقاومة يصل المئات من مقاتليها الليل بالنهار ويحفرون بالصخر من أجل التجهز والإعداد لتكون على قدر توقعات شعبها، في معركة يومية مستمرة مع عدو لا يضيع أي فرصة لضربها أو إيذائها، فهي تخوض معارك أمنية واستخبارية يومية في مواجهة منظومة احتلالية تهدف للقضاء عليها، بالتالي فهي مقاومة لها حساباتها وتقديراتها التي أثبت التاريخ أنها على قدر عالِ من المسؤولية.
ختاماً أصبنا وأخطأنا بما سبق وبالكثير، فمعركتنا مع الاحتلال مفتوحة ومليئة بالمحطات والجولات لا ولن تنتهي إلا بزوال هذا الاحتلال، وعلى قدر ما يُطور شعبنا وقواه قدراته ومنظومته المقاومة، فالعدو أيضاً لا يضيع فرصة لإجهاض كل فعل فلسطيني ومواجهته في معارك يومية تستهدف المقدرات والمقاومين والوعي، فكل خطوة يتقدمها شعبنا ومقاومته، هي خطوة في حقل من الألغام لن يتردد الاحتلال في تفجيره كله إن أعطيناه الفرصة.
وقفت المقاومة بقطاع غزة أمام مسؤولية كبرى حينما قررت توسيع مسؤوليتها الاستراتيجية عن كل شعبنا في كل أماكن تواجده، وقررت ترسيخ سياسة ترابط الساحات، وهي تعي تماماً أنها استراتيجية سيعمل الاحتلال على مواجهتها بلا هوادة، وهو ما يتطلب حسابات دقيقة وحساسة في التقاط اللحظات المناسبة للتدخل أو عدمه وفق قراءة مستمرة لسلوك الاحتلال وفعله وتجهيزاته، وقد قطعت المقاومة شوطاً مهماً يُشهد له في القدرة على تقدير سلوك الاحتلال وقراءة مشهده الداخلي وسلوكه الميداني، وتستحق أن نثق تماماً بقدرتها على تقدير الموقف الأصوب، وحتماً ستكون عند حسن ظن شعبها وثقته.
بقدر حجم المسؤولية التي نلقيها على كاهل المقاومة، يجب أن يكون كل شعبنا واعياً حول المسؤولية الفردية والمنظمة في المقاومة، وبقدر أهمية الشكل المنظم لها، هناك أهمية كبرى في الإيمان الفردي والذاتي والمساهمة المُبادرة في الفعل المقاوم، فلسنا جمهور لنادي كرة قدم، بل كلنا شركاء في المقاومة وجزء من مشروع كبير، مشروع التحرير نقدم إسهامنا فيه كلاً من موقعه ومكانه وقدرته، لذلك فلنكن جميعاً على قدر المسؤولية، ولنعي جميعاً أن المعركة مع الاحتلال جولات نهايتها الحتمية بانتصار شعبنا.