ستة أيام ليست كافية في عزاء الشهيد الذي لم نودّعه عائلة ماضية بكل ثقة الإنتماء إلى البعد الفلسطيني العميق، تاجات مكلّلة بالدم، وماذا أثمن من الدم فالروح، يتهافتون لنصرة وطنهم تباعاً فيرتقون أنبياء شهداء
إنّ آلاف الأيام لا تكفي بيت عزاء بشيرين فكيف تكفي كل الأيام لمن اقتصّ لشيرين.
لم يكن داوود فتى فلسطيني عابر للنصر أو الشـ ها دة بتاتاً بل كان رجل بكلّ ثقة للشهادة في ظل ظروف غاية بالتعقيد والتداخل لن يتحقق فيها النصر اليوم لكنه قادم غداً وبالتالي فقد كان يؤسس بمخيلته ومن قلبه وعقله لمرحلة جديدة قد لا يكون فيها هو ولكن فيها ما يتمناه هو الحرية والعودة، ولو لم يكن داوود كما أقول فلماذا يرفع أصبعه الشاهد في صورة له مؤخراً.
لماذا يرد على صديق يصوره ويسأله (ما هو طموحك؟) فيرد الشهادة وهو يعتمر البندقية بطريقة وشكل وحضور فدائي منذ عام 1982، ثم لماذا يرد على اتصال من أرذل القوم قال له فيه جبان مخابرات الإحتلال "شكلك اشتقت لزكريا" فيرد هو بكل عظمة (اشتقت لـ طٰه).
لم تبدأ حكاية آل الزبيدي من هنا ولا هنا تنتهي فإنهم حكاية في وطن وحكاية وطن فيهم منذ عام 1948 لا تجف دماؤهم فيه (وهذا لا يُلغي حالة عائلات فلسطينية أخرى كثيرة قد أعرفهم وقد لا أعرفهم معتذراً صاغراً أمام عظمة تضحياتهم وانتمائهم).
الجبال آل الزبيدي، إنهم زبدة الكلام وخلاصة القول، فهذه العائلة التي كان جزء منها يسكن قرية وادي الحوارث استشهد والد جدهم محمد الزبيدي (جد والد داوود الزبيدي) في الحرب العالمية الأولى وكان قد غادر للقتال مع العثمانيين ولم يعد، فنشأ ابنه الوحيد عبد الرحمن محمد الزبيدي وحيداً( جد داوود الزبيدي)، حيث شارك في الثورة الفلسطينية التي اندلعت عام 1936، وأصيب بقدمه وتم أسره في سجن عتليت حتى تم تحريرهم بالعام 1938 على يد الثوار، ولعلّه من الجدير بالذكر فخراً أن جد داوود لجهة أمه محمد جهجاه الزبيدي كان من الثوار المأسورين في سجن شطة وكان من أبطال عملية الهروب الكبيرة التي وقعت عام 1958 حيث استطاع 60 فدائياً الهروب من هذا السجن ثم بعد سنوات توجه محمد جهجاه الى ألمانيا وتم اغتياله من قبل المخابرات الإ حـ تلالية هناك.
عبد الرحمن الزبيدي أبا دعّاس استطاع أن يكون عائلة من 12 ذكراً وأنثى منهم:-
- عليا أم الشهيد زياد العامر، الذي استشهد وهو يدافع عن مخيم جنين في العام 2002، وهو أحد أشرس الفدائيين حتى لقي ربه بأرض المعركة، وكان قد أصيب في العام 1984 ثم تم اعتقاله في بداية انتفاضة الحجارة وهدم منزله وحكم 25 عاماً لكن أطلق سراحه في العام 1994، ليكون أحد قادة معركة المخيم.
- نصرة أم الشهيد نضال، التي نفذ ابنها نضال إبراهيم مصطفى أبو شادوف عملية اسـ تـ شـ هادية في سكة الحديد في بنيامينا عام 2001، وما زال جثمانه الطاهر أسيراً في مقابر الأرقام لكن روحه تحلق بالجنة.
- القائد جمال الزبيدي (أبو أنطون) والذي بدأ مبكراً في نضاله ضد الإحتلال وتم أسره 8 مرات ولأكثر من 4 سنوات وما زال حتى هذا اليوم شعلة الكفاح والنضال وأحد حكماء مخيم جنين الصامد، وهو عم ومربي كل من عبد الرحمن وزكريا وطه ويحيى وداوود وجبريل أبناء أخاه محمد الذي توفي في العام 1993.
- محمد الزبيدي أبو العبد وهو والد الأبطال الستة وإحدى مناضلي الثورة الفلسطينية، تم أسره في العام 1968 اول مرة واستمر مكافحاً وأسر مرتين رغم مرضه في انتفاضة الحجارة.
وهؤلاء جميعاً لديهم أبناء وأحفاد أسرى في سجون الاحتلال النازي.
محمد الزبيدي أبا العبد، هذا الرجل العنيد صاحب الفكر الثوري الناضج أباً لثمانية منهم كوثر وعدن أخوات النشامى:-
- عبد الرحمن الزبيدي، قضى 5,5 أعوام تقريباً بالأسر، وعاش معاناة والديه وإخوته وكان سندهم ويظل كذلك ان شاء الله، أخلاق عالية ونفس فلسطيني حر.
- يحيى الزبيدي قضى 17 عاماً في الأسر ولا زال نبض للثورة والوطنية والإنتماء.
- جبريل الزبيدي قضى 14 عاماً في الأسر تقرأ بعينيه حكاية النصر التي ستكون.
- زكريا يا زكريا .. ماذا أقول فيك وكيف أحكي عنك ومعك تحديداً سألتزم الصمت الذي يقول كل الحكاية.
- الشـ هـ يد طه الزبيدي الذي اسـ تـ شهد في العام 2002 بمعركة المخيم إثر قذيفة نازيّة نالت منه، وعندما ارتقى كان إخوته داوود ويحيى وجبريل أسرى وكان زكريا مطارد وكانت أمه قد سبقته للجنان حيث أعلن إعلانه الواضح الذي لا لبس فيه بأنه سيُذيق هذا الإ حـ تلال ما يستحقه وقد جاء ذلك على لسان اخته كوثر التي قالت:- «عاش بطلا واستشهد بطلا ومجسدا الحلم الذي قطعه فوق رأس والدتي عندما استشهدت فلن انسى ذلك المنظر بعد استشهادها عندما وقف فوق راسها واقسم امام الجميع بانه لن يغمض له جفن أو يهدأ له بال ما لم يثأر لدمها ويلقن الصهاينة الذين اغتالوها الدرس فطريقي الجهاد جهاد نصر او استشهاد فكان على موعد مع الشهادة والموعد خلال المعركة الأسطورية على ثرى مخيم جنين التي عمدها بدمه الطاهر قبل أسبوع من حفل زفافه فاستشهد وهو يمسك ببندقيته ويخوض المعركة تلو المعركة مع رفاقه ابناء السرايا والمجموعات المقاتلة كافة»، وقد فعل وقد وَفا وقد ارتقىٰ.
- أم هؤلاء الأبطال الستة سميرة أم العبد التي ربّت كل الذين ذكرتهم ومعهم داوود، وكانت الشعلة المتّقدة في انتفاضتي الحجارة والأقصى، والتي ارتقت برصاص الاحتلال الغادر بعام 2002، فظلّت أصل الحكاية.
الشـهـيد داوود الزبيدي والذي استشهد في الذكرى الحزينة ليوم النكبة 2022، هذا الرجل الذي تغنيك ابتسامته عن "كونتينر" أمل وضحكته عن بستان سعادة وبأسه عن مقاومة وشغفه عن انتصار وحقيقته عن حياة.
داوود الزبيدي الذي قضى أكثر من 20 عاماً متفرقة أسيراً كان أحد الكبار الذين يطاردون الإحتلال بشغف وعظمة وقوة، إنه أحد المتيّمين بالشهادة أمثال الضياء والرعد والقائمة العظيمة تطول، إنه الرجل الذي سأله أحد رفاقه (شو طموحك بالحياة؟!) فردّ الشهادة، وهو الرجل الذي قال له "خمنجعي" عاهر من مخابرات الاحتلال "شكلك مشتاق لزكريا" فرد بكل ثقة:-
إنه داوود اسم النبي، وهو داوود الذي طوى الشمس تحت إبطه وسافر للنصر.
هذه هي عائلة الزبيدي بتفاصيل أقل بكثير من كل التفاصيل، وهذه هي ترانيم الثورة الصادقة بعصر الخنوع والخضوع، وهذه هي العائلة التي لا تنتمي للعائليّة التافهة التي تنزع للسيطرة الوهمية الحقيرة وهذه هي العائلة الصادقة ومثيلاتها في فلسطين المحتلة والتي نسعى لها عبر نسيج ليس فوق القانون وليس تحت القانون بل أن تكون القانون وحتى ننعم بالحرية ذات يوم.
على سفوح الجبال المطلة على سجن جلبوع، كانت فلسطين بأبهى حللها تمشط شعرها لدى امتشاق الجهجاه الزبيدي والزبيدي صهوة الحرية بمعية العارضة والعارضة والكممجي والقادري وانفيعات، فكانت الشمس تميل للمغيب وصارت الشمس تميل للحرية.
ومن مخيم جنين بزغ الأمل وظلت الشمس تحت إبط داوود تنبّئ بالحرية التي ارتقى لأجلها داوود، وأسِر لأجلها زكريا وعشنا كلنا (لعيونها) وهي تحت إبط داوود.
ويبقى لي تساؤل واحد:-
هذه العائلات ومثيلاتها تُرعب العدو، فهل هناك بين ظهرانينا من يرتعب من وجودها؟!!