بالنظر إلى أغلبية الحروب التي شنتها قوات الاحتلال الإسرائيلية على غزة كانت بسبب موقفها الثابت إزاء المسجد الأقصى المبارك أولى القبلتين، بشد الرحال إليه مهما كلفها الأمر من تضحيات، وهنا تكون التضحيات بمعناها الكبير، خاصة إذا ما قارنا القوة البسيطة التي تملكها فصائل المقاومة الفلسطينية في غزة بالقوة الهائلة والترسانة الضخمة التي بحوزة الاحتلال، وقد جرب كل ما يملك من أسلحة تقليدية وغير تقليدية على حد سواء، ولا يهمه أي قانون ولا أي منظمة دولية مطلقا، منذ نشأته على أرض فلسطين. لطالما هناك من يدافع عن هذا الكيان الاحتلالي “بالفيتو” ويحبط أي قرار دولي ضده، لذا يده طليقة يفعل ما يشاء، فيقتل ويعتقل ويهدم ويهجر ويهود ويقتحم المقدسات ويصادر الأملاك الفلسطينية دون وجه حق.
الاحتلال الإسرائيلي سعى منذ البداية في حروبه مع الدول العربية لتعزيز نفسه بالانتصارات السريعة على الجيوش العربية، وعلى عدة جبهات قتالية، ومن هذا المنطلق أوجدت في نفوس هذه الجيوش هاجس الخوف والردع.
وأمام هذا العجز حاولت بعض الزعامات العربية مسح هذا العار بعار أكبر بعقد اتفاقيات سلام وتطبيع للعلاقات مع الاحتلال، وما إلى ذلك من ركوع وانبطاح، على حساب القضية الفلسطينية، ولا ننسى “اتفاق اوسلو” الذي اتخذوا منه ذريعة للميل كل الميل للاحتلال، مع أنهم يعرفون أن الشعب الفلسطيني لا يزال يقاوم الاحتلال ولم يستسلم.
لقد أذاقت المقاومة في غزة الاحتلال دروسا على مدار العقدين السابقين فلم يرفع رأسه منذ ذلك الحين، وهو يعترف بشراسة المقاومة وتآكل قوته الردعية التي لطالما تفاخر بها، فجاء اليوم الذي يذل ويهان على أيدي المقاومة الفلسطينية التي تستخدم كل ما لديها لمقارعة هذا الاحتلال بإمكانياتها المحدودة، وفي كل مرة تسجل المقاومة فيها انتصارا تلو الانتصار، بل إن جيش الاحتلال يبدأ الحرب على غزة ولا يستطيع إنهاءها إلا بطريق وساطات، وهذا دليل على فشله في كل حرب، وهو يجر خلفه ذيول الخيبة والندم، وبالتالي فالمقاومة في غزة التي ترأسها حركة حماس أثبتت بما لا يدعو للشك أن المقامة انتصرت في حرب “سيف القدس” العام الماضي، فلا حاجة للاحتلال أن يختبر غزة من جديد، وعلى ما يبدو أنه ماضٍ في هذا، فقد “أفاد موقع (والا) الإسرائيلي، بأن (إسرائيل) بعثت برسائل تهديد -عبر مصر- لقيادة حماس أنها لن تتحمل المزيد من إطلاق الصواريخ من غزة، وستضطر إلى تشديد ردود الفعل والإضرار بالتسهيلات المقدمة لسكان غزة مثل خروج العمال، وتصدير واستيراد البضائع، وتعزيز المشاريع، وغيرها”.
لعل (إسرائيل) سمعت الجواب من والد الشهيد رعد حازم أن الشعب الفلسطيني لا يريد تسهيلات ممزوجة بالدماء، وأن غزة المحاصرة لأكثر من خمسة عشر عاما تقاوم الاحتلال وتهب للدفاع عن القدس والأقصى، فتم إفشال مشروع البوابات الإلكترونية والأنفاق أسفل المسجد الأقصى، وإلغاء مسيرات الأعلام ووقف تهويد الشيخ جراح وسلوان ومنع ذبح القرابين في المسجد الأقصى قبل أيام، وقد حذرت حماس الاحتلال من مغبة الرجوع إلى مثل هذه الأعمال الاستفزازية، بأن المقاومة تراقب ما يحدث في المسجد الأقصى وبأنه خط أحمر في ظل تهديدات المستوطنين المتزايدة باقتحامه لتنفيذ ما تسمى “مسيرات الأعلام”.
اللافت للنظر أن رئيس وزراء الاحتلال بينيت الذي كان متحمسا لمثل هذه الأعمال الاستفزازية بإعطاء الضوء الأخضر لقطعان المستوطنين من أجل حفظ ماء وجهه أمام الائتلاف الحكومي، فهو يصدر قرارا بإبعاد المتطرف بن غفير عن الأقصى، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على الخوف من ردة فعل المقاومة في غزة، بل أكثر من ذلك أنه طلب من الوسطاء الضغط على حماس بعدم الرد على قصف جيش الاحتلال لغزة ردا على صواريخها، وقد تفاجأ الاحتلال بجهوزية المقاومة وردها المباشر على الغارة الجوية من قبل الطائرات الحربية الإسرائيلية التي تصدت لها “بصاروخ أرض جو” من طراز “ستريلا” المضاد للطائرات الحربية وهو ما لم يحسب قادة الاحتلال له حسابا.
الاحتلال أصبح في وضع لا يحسد عليه، رأيناه كيف تكشفت أسرار فرقه الأمنية الخاصة للإعلام في أثناء عملية ديزنكوف، وهرولتهم مذعورين مرتجفين من هول العملية الفدائية بالبحث عن الشهيد رعد في شوارع “تل أبيب” ومحيطها، فكيف بهم اليوم يواجهون غزة بهذا التخبط وحالة الاستياء الأمني والعسكري الشديدة التي تمر بها (إسرائيل) الآن؟! وإن المقاومة في غزة تعتمد دائما وأبدا على عنصر المفاجأة التي تذهل جيش الاحتلال وقادته، فبعد الكشف عن هذا السلاح “أرض جو” أخذ الاحتلال يحسب ألف حساب لأي عدوان جديد من شأنه أن يكبده هزيمة تضاف إلى قائمة الهزائم وملفات الجرائم الدولية السابقة في ظل حكومة ضعيفة على مشارف الانهيار وتفكك الائتلاف الحاكم بزعامة بينيت ولبيد وغانتس.
الشعب الفلسطيني لا يكل ولا يمل، وسيبقى يدافع عن أرضه ومقدساته حتى النصر على هذا العدو، فقد رأينا كيف أعاد الشهيد محمد أبو القيعان من النقب المحتل الصراع إلى المربع الأول ليقول للاحتلال ومن يطبع معه في تلك الأثناء إن فلسطين واقعة تحت الاحتلال وإن الشعب الفلسطيني لا يزال يقاوم هذا المحتل وإن الأقصى محرم على اليهود، فهو ملك خالص للمسلمين ولا يمكن القبول بتقسيمه ولا بتهويده وإن القدس عاصمة فلسطين وإن غزة المحاصرة ستبقى شوكة في حلقه والضفة الثائرة تنتفض في وجهه، وإن اللاجئين لن ينسوا حق العودة وإن الأسرى صامدون في وجه وجبروت السجان لم يستسلموا ولم يرفعوا الراية البيضاء حتى يأتي الفرج بصفقة تبادل مشرفة.