فلسطين المحتلة - خاص شبكة قُدس: تواجه "إسرائيل" في العقود الأخيرة حروبا غير تقليدية مع فصائل المقاومة التي تمتلك قدرات نارية تسمح لها بضرب أهداف عن بُعد في الأراضي المحتلة، بعضها يتمتع بقوة تدميرية عالية وطويلة الأمد ودقيقة. المثال الأقرب لهذه الظاهرة من الحروب، هو جولات القتال بين المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة وجيش الاحتلال. في السنوات الأخيرة، ضُيق الخناق على مسارات التهريب التابعة للمقاومة في غزة، ما اضطرها لتصنيع أسلحتها في غالبيتها بجهد ذاتي، وهذا بدوره عكس نفسه في قدرتها على القتال في كل الأوقات بسبب محدودية الموارد، لذلك ذهبت المقاومة إلى استراتيجية تقليل عمليات القتال في مقابل تكثيفها واستخدام كثافة نارية كبيرة فيها لردع الاحتلال وخلق نموذج مرعب من الجولات التالية، وهو ما يجعله يتعاطى بحذر مع مختلف القضايا التي تعلن عنها المقاومة كخطوط حمراء مع انتهاء كل جولة.
مفهوم المقاومة بالأساس مفهوم عملي مركب من أداتين: الفعل الحركي، والوعي. ومهمة الفعل الحركي أو الفيزيائي هو تحقيق إنجازات واعية أو تؤثر على الوعي الجمعي، لأن المقاومة في النهاية هي وسيلة من يعمل ميزان القوى لغير صالحه. لذلك فإن مهمة الفعل المقاوم المجرد هو تحقيق مجموعة من التفاعلات في البيئة المحلية وبيئة العدو وحتى البيئات المحيطة والبعيدة غير المباشرة، وهذا بكل تأكيد يستهدف أيضا التأثير في صانعي القرار من السياسيين والعسكريين، مع الإشارة إلى أن التطور التكنولوجي والانتشار الواسع لمواقع التواصل الاجتماعي قد أعاد الاعتبار لمعركة الوعي كعنصر أساسي في معادلة الحرب.
تكشف وثيقة إستراتيجية لجيش الاحتلال الإسرائيلي أن قيادة الجيش باتت على قناعة أن خصائص استخدام القوة لدى المقاومة قد تغيرت، وتحولت إلى الاستخدام المحدود الواعي، الذي يسعى لتحقيق إنجازات تؤثر على الوعي الجمعي للمستوطنين وكذلك الفلسطينيين. هذا التحول اعتبره الجيش أعقد ما يمكن التعامل معه في السنوات الأخيرة، لأن المعركة الأهم تدور في العقل الذي إحدى أدواته الإدراك الذاتي، وهذا الإدراك يتأثر بما ينشر على وسائل التواصل الاجتماعي، وفي هذا السياق يعترف الإسرائيليون أنهم خسروا أمام المقاومة الفلسطينية التي تدير معركة وعي يومية مع جمهور المستوطنين، بينما في حالة الجيوش النظامية فإن التركيز يبقى على الحرب النفسية الملازمة لأيام المعركة الفعلية.
إن التأثير على وعي الجمهور، والتلاعب المعرفي بتعريف القوة، أضر بهيبة القوة الكلاسيكية التي تمتلكها الجيوش النظامية ومن بينها جيش الاحتلال الإسرائيلي، وأصبح من الصعب التأثير على الوعي من خلال استعراض القوة الكلاسيكي. هذه الحالة، مكّنت المقاومة الفلسطينية من الاستعاضة عن قلة الموارد بسبب الحصار وغيره من العوامل، وأنتجت مفاهيم جديدة للمعركة وما بعدها وللانتصار وطبيعته. الأخطر بالنسبة للاحتلال في هذه الحالة، أنه لم يعد قادرا على إقناع جمهوره بجدوى قوته رغم حجمها وتطورها، ويفشل في أحيان كثيرة في تكريس الشعور بالأمن لدى المستوطنين. لهذا أصبح الاحتلال مضطرا لتفادي جولات القتال التي تحدد المقاومة طبيعة الانتصارات فيها، ولا تعتمد بأي حال من الأحوال على الطبيعة الإحصائية أي عدد القتلى أو حجم الدمار وإنما على القدرة في إنتاج عوامل التأثير في الإدراك الفردي والجمعي.
كيف يُدار ما سبق! في حرب عام 2014 على قطاع غزة أعلنت كتائب القسام أنها قصفت مطار بن غوريون. بالمفهوم المادي كان المطار خاليا، وبالتالي لو حتى لو وقع الصاروخ بداخله فإنه لن يتسبب بمقتل مستوطنين إسرائيليين. لكن القراءة الإسرائيلية للقصف كانت مختلفة، سعت المقاومة من وراء ذلك إلى إرسال رسالة للفلسطينيين بأنها قادرة على ضرب أماكن حساسة وتعطيل الحياة لدى الاحتلال. مطار بن غوريون بالنسبة للفلسطينيين رمزا من رموز إقامة الاحتلال لدولته، وبالتالي فإن وقع استهدافه يخلق نوعا استثنائيا من تفاعلات الوعي. أما الرسالة الموجهة للمستوطنين، فهي أن أهم المرافق الحيوية بالنسبة لمجتمع مدمن على السفر يمكن تعطيلها في الحرب، وسيبقى المستوطنون أسرى الحرب حتى تنتهي، فلا هم قادرون على المغادرة ولا هم قادرون على البقاء. بالإضافة لذلك، استفادت المقاومة من إعلانات شركات الطيران العالمية عن تعطيل رحلاتها من وإلى الأراضي المحتلة، لتؤكد لمن ينوي الهجرة إلى الأراضي المحتلة من اليهود بأن المكان غير آمن، بالإضافة لكون القصف رسالة إلى شركات الطيران ذاتها.
في معركة سيف القدس عام 2021 طورت المقاومة الفلسطينية مفهوما جديدا للقوة، يتمثل في عامل الوقت. من المعروف أن المقاومة لا تمتلك قدرات نارية تمكنها من قصف تل أبيب 24 ساعة على مدار أيام القتال، بينما يمتلك جيش الاحتلال الإسرائيلي هذه القدرات. لذلك لجأت المقاومة إلى تحديد أوقات معينة للقصف، فكان عامل الوقت في هذه المعادلة شديد التأثير، وظهرت مصطلحات لدى الجمهورين الفلسطيني والإسرائيلي، استفادت منها المقاومة لتخلق نموذجا مبتكرا في الردع، من أهمها: منع التجول في تل أبيب، تل أبيب تحترق، المستوطنون على رجل ونصف بانتظار القصف. الأهم بالنسبة للمقاومة، كانت الرسالة الموجهة للمستوطنين، بأنها قادرة على إنتاج الفعل في الزمن الحقيقي المعلن عنه سابقا، وهو ما يعني تحدي الأنظمة الاستخباراتية والعسكرية الإسرائيلية في منع إطلاق الصواريخ وبالتالي فشل الدعاية التي يقودها جيش الاحتلال لطمأنة المستوطنين من خلال تأكيده على تدمير القدرات القتالية للمقاومة.
في ضوء ما سبق، يمكن الإشارة إلى أن "إسرائيل" تعاني من التأثيرات الاجتماعية والنفسية لجولات القتال في مجتمع يتسم بالميل للهجرة. لذلك فهي تخشى هذه الجولات ليس فقط بسبب تأثيرها العسكري المباشر، وإنما لتأثيرها في الوعي الجمعي للمستوطنين، ومن هذا المنطلق تتفادها. وما حدث اليوم من منع لدخول مسيرة الأعلام إلى باب العامود هو إنجاز لوعي المقاومة، كما هو إنجاز لقدرتها العسكرية. ومن المهم أيضا التذكير، أن المقاومة في غزة ليس بإمكانها الرد على كل اعتداء إسرائيلي، لأن قوتها محدودة مقارنة بالاحتلال، كما أنها لا تستطيع أن تمنع كل الممارسات الإسرائيلية، لأن العدوان الإسرائيلي قضية يومية. لكنها تستطيع أن تغلق مشهدا كبيرا لصالحها مثلما حدث اليوم، وأن تجمع بين أداتي الوعي والقوة لخلق معادلة تزيد من هشاشة شعور المستوطنين بالأمن، وهذا هو الهدف القابل للتحقيق في هذه المرحلة. الاستخدام الحذر والذكي للقوة عندما يترافق مع قدرات استثنائية في إدارة معركة الوعي، هذا هو الانتصار الذي يجري الحديث عنه في ظل أن مفهوم النصر متغير وغير ثابت عندما يتعلق الأمر بمعركة يومية واحتلال بطبيعة إحلالية.