نابلس - خاص قُدس الإخبارية: في 8 فبراير الجاري نفذت فرقة "اليمام" الإسرائيلية الخاصة، عملية اغتيال بحق ثلاثة مقاومين فلسطينيين في حي المخفية بمدينة نابلس، هم: المطاردان أدهم مبروكة ومحمد الدخيل، والمقاوم أشرف مبسلط الذي كان برفقتهما. وفق الإعلام العبري، فإن الثلاثة بالإضافة للمطارد إبراهيم النابلسي، شكلوا خلية عسكرية نفذت عددا من عمليات إطلاق النار باتجاه حاجز حوارة في الأيام الأخيرة التي سبقت اغتيالهم.
فتح اغتيال المقاومين الثلاثة في نابلس نقاشا في محاور عدة: الأول، انتماؤهم لكتائب شهداء الأقصى، وما هو علق عليه محللون إسرائيليون بأنه العلامة الأبرز في عملية الاغتيال. الثاني، الطريقة التي جرت فيها عملية الاغتيال، وكثافة النيران التي استهدفتهم. الثالث، المكان الذي نفذت فيه عملية الاغتيال، وأخيرا التوقيت العام للعملية.
انتماء الشهداء.. بين الشرعية والمشروع
بعد الانتفاضة الثانية سعت السلطة الفلسطينية، إلى احتواء ظاهرة كتائب شهداء الأقصى، من خلال ما عرف بـ "العفو" الذي يعني تعهد المقاومين بتسليم سلاحهم وعدم العودة إلى المقاومة المسلحة. في تموز 2007 سلم عشرات المقاومين أسلحتهم في مدينة نابلس، كان الشعار الذي رفعته السلطة في ذلك الوقت "الالتزام بالشرعية الفلسطينية ومشروع السلطة، وعدم السماح بتكرار نموذج غزة، أي سيطرة حركة حماس هناك".
هذه المحددات الثلاثة، الشرعية والمشروع والنموذج، التي شكلت أضلاع مثلث رواية السلطة لإقناع المقاتلين بتسليم أسلحتهم، تبدو اليوم في أزمة غير مسبوقة. على الأقل يتضح ذلك في منشورات الشهداء الثلاثة، الشرعية التي تحدثت عنها السلطة في حينه، أصبحت محصورة في طاقم صغير يتحكم ويتصرف بناء على ما يراه مناسبا، دون إشراك لباقي المؤسسات والهيئات التي تمنح الشرعية لأي سلوك أو فعل سياسي، وهذا ينطبق على الحالة الفتحاوية الداخلية والأوسع المتعلقة بالشعب الفلسطيني، وقد بلورت النخبة المتنفذة في السلطة مفاهيم جديدة ضيقة، أبرز سماتها أن الشرعية تتركز في عدد قليل من الأشخاص وفي قراراتهم.
المحدد الثاني، وهو المتعلق بالمشروع، يعاني هو الآخر من أزمة ثقة في الداخل الفتحاوي وفي الكل الفلسطيني. الاستيطان يتسارع والاحتلال يفرض أمرا واقعا على الأرض التي يُفترض أن مشروع السلطة الفلسطينية يجب أن يقوم عليها. كما أن وظيفة السلطة ومهامها لم تعدّ أكثر من مهام وصلاحيات هيئة موسعة تدير حالة أمنية وإدارية دون أي أفق سياسي. يدلل على ذلك أن حكومات الاحتلال اختارات التعامل مع السلطة الفلسطينية فقط من خلال جيش الاحتلال والإدارة المدنية والشاباك، وهذا هو السقف الذي تحدد خلال السنوات الماضية. لقد أصبح الحديث عن المشروع الوطني عبر الناطقين باسم السلطة ومنظريها أكثر ما يثير سخرية الشارع الفلسطيني.
نموذج غزة، وهو المحدد الثالث، الذي رفعته السلطة كشعار لإقناع المقاتلين بتسليم سلاحهم، أصبح مقنعا أكثر اليوم، خاصة بعد معركة سيف القدس وجولات القتال التي وقعت مع الاحتلال، وهو ما كانت تحذر منه النخبة الإسرائيلية في كثير من دراساتها وأبحاثها وتوصياتها. أقرب مثال على ذلك ما نشره أحد الشهداء الثلاثة، أدهم مبروكة، عن إحدى عمليات المقاومة في غزة حين كتب "سيعود المقاوم آمنا، لن يرفع فيه المناديب تقارير..!". ما تحدث عنه الشهيد مبروكة، هو القناعة التي بدأت تترسخ شيئا فشيئا في الشارع الفلسطيني، الذي يرى في غزة ساحة أخيرة للنضال المسلح الفلسطيني ضد الاحتلال، في حين أن الحاكم الفعلي هناك، حركة حماس، مكنت المقاومين من تطوير سلاحهم، وإنشاء مواقع عسكرية، وإجراء تدريبات، وشكلت لهم حماية، يفتقدها مقاومو الضفة الغربية.
الخلاصة أن ما كانت السلطة تقنع به المقاتلين من أجل تسليم سلاحهم وانتظار نتائج خياراتها لم يعد قائما، وهنا الحديث عن قواعد حركة فتح، بعيدا عن المهللين والمطبلين، الذين لا يرون في الحركة ومشروعها أكثر من مشروع استثماري أو مشروع تقديم خدمات. لذلك، فإن الخشية التي تحدث عنها محللون إسرائيليون من عودة كتائب شهداء الأقصى، هي خشية محقة، والسبب هو الرهان الإسرائيلي على منح الامتيازات لعدد قليل من المتنفذين وأصحاب القرار في الحركة من أجل محاصرة كل توجه مقاوم فيها.
الظهور الجديد لكتائب شهداء الأقصى، وإن كان في بدايته ولم يكتمل أو ينضج، لأسباب لها علاقة بحركة فتح، يأتي في توقيت حساس بالنسبة للمتنفذين الذين يخوضون معركة خلفية على الخلافة، ويخشون من أي توتر داخلي، خشية استغلاله من قبل خصومهم في هذه المعركة. هذا يفسر عدم قيام الأجهزة الأمنية بملاحقة التشكيل العسكري الذي عمل الشهداء الثلاثة في إطاره، وإن كان إطارا بسيطا ومحليا. في المقابل نفذت الأجهزة الأمنية عمليات اعتقال لأكثر من 15 مقاوما من سرايا القدس وكتائب القسام من جنين ومخيمها، وشنت حملة على نشطاء المقاومة الشعبية في بلدة بيتا، وخاصة كوادر حركتي حماس والجهاد الإسلامي، ووجهت لبعضهم اتهامات بمحاولة تشكيل خلايا عسكرية.
في حالة الشهداء الثلاثة كان التدخل الإسرائيلي لوقف نشاطهم هو الخيار الذي يراعي حسابات طرف ما يخوض معركة نحو قمة الهرم النهائية، ولا يريد أن يتسبب بتوتر داخلي يستغله خصومه في المعركة، وليس كرما ولا مراعاة ولا تبنيا لفعل الشهداء الثلاثة، فقد اعتقلوا في سنوات سابقة على أعمال مقاومة وحيازة سلاح، لكن في ظروف كانت تسمح بملاحقة مقاومي حركة فتح. مثلا، الشهيد محمد الدخيل اعتقل على زراعة عبوة ناسفة وهو بسن الـ 16 عاما، والشهيد أدهم مبروكة اعتقل على حيازة سلاح، وعذب وأصيب في كتفه إصابة استشهد وهو يعاني منها.
طريقة الاغتيال.. فجروا الرؤوس
أظهرت مقاطع الفيديو التي انتشرت بعد عملية اغتيال الشهداء الثلاثة، أن القوات الخاصة قد أطلقت أكثر من 80 رصاصة باتجاههم، وأعدمتهم برصاص متفجر فجّر رؤوسهم. وعلى غير عادة جيش الاحتلال وسياسة الحكومة الإسرائيلية في السنوات الأخيرة، تُرك الشهداء في مسرح الجريمة. التفسير الممكن لذلك، هو أن الاحتلال سعى لأن يكون الشهداء الثلاثة درسا قاسيا لكل من يحاول التحرك في الضفة الغربية ضد السياسة العامة القائمة.
عملية الاغتيال والإعدام بهذه الطريقة والوضوح، ليست أقل من رسالة في توقيت تتصاعد فيه المقاومة المسلحة ضد الاحتلال، وليست أقل من نموذج مضاد لصعود نموذج الاشتباكات المسلحة وإطلاق النار على الحواجز العسكرية الإسرائيلية. يسعى الاحتلال لتحقيق مبدأ الصدمة في الوعي العام، وخلق روح اليأس والإحباط من جدوى المقاومة وتكاليفها، هذه واحدة من أساسيات نظرية الجدار الحديدي التي تعد من أهم الأطر المفاهيمية والنظرية للسلوك الإسرائيلي الاستراتيجي والتكتيكي على حد سواء.
يُضاف إلى ذلك الحالة التي شكلها المقاومون الثلاثة، والالتفاف الجماهيري حولهم، والوضوح الذي تعاملوا فيه خلال عملية مطاردتهم، والذي منحهم شعبية ورمزية في البلدة القديمة بنابلس. لقد كان المقاومون ينشطون على وسائل التواصل الاجتماعي، ويخلقون نموذجا واعيا مرنا في ذهنية جيل تخشى المؤسسة الأمنية لدى الاحتلال أن يقتدي بهم. في مثل هذه الحالات، يستخدم الاحتلال دراما الموت لاغتيال دراما القتال، الموت الواضح في مواجهة المقاومة الواضحة، وتحضر صورة الجريمة كمعيار انتصار أحد النموذجين.
في الشق الأمني من هذا المحور، يبدو أن الإسرائيليين أرادوا توجيه رسالة محددة أيضا لمطارد آخر، هو إبراهيم النابلسي، لعلمهم أنه غير موجود معهم، ليس فقط له، بل لمحيطه الاجتماعي الذي يأمل الاحتلال أن يساهم مشهد النهاية لرفاقه في ثنيه عن مواصلة مطاردته وعمله ضد الاحتلال، وفي السياق الأوسع لكل المطاردين الذين تتسع ظاهرتهم، وكذلك عائلاتهم. خلق الخيارات "العقلانية" مبدأ أمني إسرائيلي يراد منه وضع خيارات كثيرة، بعضها شديد القسوة، بين يدي أعدائها ومن حولهم، على أمل أن يكون الاختيار النهائي هو ترك العمل المقاوم والذهاب باتجاه خيارات أقل تكلفة.
في نابلس.. ليس على الأطراف
من أبرز الظواهر الخطيرة التي ظهرت على السطح للسطح في السنة الأخيرة بالنسبة للإسرائيليين، هو نموذج مخيم جنين، ومبدأ الأماكن الآمنة المحظورة على الإسرائيليين. لقد تعاملت مؤسسة الاحتلال الأمنية مع هذا الواقع بمرارة وحذر، وتزايدت الانتقادات لها خاصة بعدما تبين أنها كانت تعلم المكان الذي تواجد فيه اثنين من محرري جلبوع في مخيم جنين، وذهابها لخيار استدراجهم لخارج المخيم، كبديل لخيار كل التوقعات والتقديرات كانت تشير إلى أنه دامٍ. وقد تعاملت على هذا الأساس في اعتقال عدد من مطلوبي مخيم جنين من سرايا القدس وكتائب القسام.
خطورة هذه الظاهرة بالنسبة الإسرائيليين تكمن في تحول بعض المناطق إلى جغرافيا آمنة للمقاومين، وهو ما يساهم في تضخمها ذاتيا من داخلها وأيضا من خلال مقاومين يلجأون لها من مناطق أخرى، كما في حالة أسرى نفق الحرية. هذه الظواهر لا تكتفي بحالة الدفاع، كما تعلم الإسرائيليون من التجربة العملية، بل سرعان ما تتحول إلى مصدر للهجوم. تجدر الإشارة هنا إلى أن هذه المناطق أصبحت أيضا محمية بمنطق الربط في معادلة سيف القدس (غزة - الضفة - القدس). يعني أنها قد تتحول لمعضلة مزمنة أو يصعب حلها.
بالإضافة لما سبق، أدركت مؤسسة الاحتلال الأمنية أن هناك من يريد فرض معادلة الدخول غير الآمن لمدن الضفة الغربية، أي أن أي دخول لجيش الاحتلال سيرافقه اشتباك مسلح أو إطلاق نار مهما كان حجمه وتكلفته. صحيح أن هذه الظاهرة حتى الآن غير مكلفة للاحتلال على المستوى المادي، ولم تنضج بشكل كبير لتحدّ من حرية حركة جيش الاحتلال، لكن تناميها يخلق مشكلة جديدة أمنية جديدة تفقد الجيش أريحية العمل في المرحلة الحالية، وصولا إلى حرية العمل في مراحل قادمة.
لا يوجد مناطق أو جغرافيا آمنة، ولا تكاليف للعمل العسكري الإسرائيلي في الضفة، وحرية العمل موجودة ولن تضرر بوجود مطاردين أو مسلحين، رسالة في ثلاثة اتجاهات حاولت مؤسسة الاحتلال الأمنية أن ترسلها عبر اختيار المكان وحتى الزمان (ساعات الظهيرة). رسالة موجهة للفلسطينيين ولمن يبني على هذا التوجه أو التصور، وللجمهور الإسرائيلي الذي يبدأ ينتقد تنامي حالة الاشتباك في الضفة الغربية.
التوقيت العام لعملية الاغتيال
تزامنت عملية الاغتيال مع انعقاد المجلس المركزي، الذي سرب بيانه الختامي قبل انعقاده، وقد تضمن بندا أو توصية لوقف التنسيق الأمني بين السلطة الفلسطينية والاحتلال. هذا الخيار الذي سئمت دولة الاحتلال وحتى الولايات المتحدة من التلويح به أو الحديث عنه، فكانت الرسالة الإسرائيلية أنه خيار غير قابل للتطبيق بحكم وظيفة السلطة الأمنية، ومن جهة أخرى لا يعني وقفه للإسرائيليين شيئا، فهم من يدافعون عن أمنهم. تنسجم هذه الرسالة مع تصريحات لأكثر من مسؤول إسرائيلي في السنوات الماضية، ملخصها "صحيح أنهم يقدمون لنا معلومات في إطار التنسيق الأمني، لكنه في المقابل يحميهم"، المقصود يحمي قيادة السلطة.
أما الشق الذي يتعلق بالسياسة الداخلية الإسرائيلية، فقد تزايدت في الأسابيع الأخيرة حدة الخلافات داخل الائتلاف الحكومي، وبدا واضحا وفق بعض المراقبين أنه لن يعمر طويلا، في ضوء ذلك، يحاول وزير جيش الاحتلال بني غانتس أن يغسل يديه من عار لقاءاته مع الفلسطينيين بدمهم، حيث واجه انتقادات حادة من قبل المستوطنين ومعظم التيارات الإسرائيلية. أيضا عومير بارليف، الذي تعمل فرقة اليمام ضمن مسؤولية وزارته، هو الآخر واجه في الأشهر الأخيرة انتقادات حادة من قبل المستوطنين. لذلك يحاول كل واحد من أطراف الائتلاف التسلح بعدد من المواقف والشواهد والأحداث التي تساهم في رفع رصيده.
وأخيرا في هذا المحور، لقد تحولت خلية نابلس في الفترة الأخيرة إلى ما يشبه الرأي العام، أو أحد مداخل الانتقاد للسياسات الأمنية الإسرائيلية في الضفة. موقع 0404 على سبيل المثال، كان ينشر في أخباره عن عمليات إطلاق النار على حواجز حوارة والتي تكثفت الشهر الماضي، جملة "ولا زالت الخلية تتحرك بحرية". بينما نشرت مواقع وصحف أخرى تقديرات أمنية تشير إلى أن خلية واحدة هي التي تقف وراء عمليات إطلاق النار على حاجز حوارة، وقد حظيت الخلية باهتمام الإعلام الإسرائيلي، الذي يشكل أحد أهم مدخلات القرارات في ظل حكومة هشة كحكومة بينيت.