شبكة قدس الإخبارية

تفتح نافذة أمل وتعوضهم غياب دور العرض

"باص السينما"... حافلة ركاب تسافر بأطفال غزة بعيدًا عن ضغوط الحياة ومأساة الحروب

file_2021-11-14_111042

غزة/ يحيى اليعقوبي – أمل الوادية: كانت قاعة السينما داخل الباص مظلمة إلا من ذاك الضوء القادم من الشاشة التي تستعد لعرض فيلم الأنيميشن (رسوم الكرتونية)، بعدما خفتت أنوار المصابيح وتوزع أطفال وشبان وفتيات من ذوي الإعاقة على المقاعد داخل الباص، يجلسون بهدوءٍ وسكينةٍ وراحة تتجمع على وجوههم كل خصال الفرح.

يحملون أكياس الفشار بين أيديهم، ويحدقون بشاشة العرض المثبتة أمامهم؛ يبدؤون بالعد التنازلي بصوتٍ واحد (1،2،3) لمشاهدة أول فيلم سينمائي في حياتهم تخفق نبضات قلوبهم؛ وتغمرهم فرحة عارمة، بينما تتفتح براعم الابتسامة بين شفاههم، يسافرون إلى طفولتهم التي خلت من هذا المشهد، يأخذهم الباص بعيدًا عن ضجيج الحياة ومأساة الحروب لعالم الفرح.

وأنت بغزة لن تحتاج إلى قطع تذكرة سفرٍ لدولة أخرى لمشاهدة فيلم سينمائي بدار عرض كما درج في السابق، فستأتي السينما إليك حتى ولو كنت في مناطق نائية وحدودية، لتسافر بك في شوارع وحارات غزة، سيمر الباص بك بين السيارات والمفترقات لكنك – وأنت تجلس على مقاعده بداخل صالة العرض – لن تشعر بكل تلك الضوضاء، ستكون منسجمًا بكل حواسك مع أحداث الفيلم.

"باص السينما" مشروع ضمن مبادرة شبابية تسعى إلى تعزيز القيم وغرس الفضائل عن طريق أفلام الرسوم المتحركة، أطلقتها جمعية شباب المستقبل في قطاع غزة ويموله "الاتحاد الأوروبي"، إلى جانب أنها محاولة للتفريغ النفسي عن أطفال وشباب أرهقتهم الحروب، ينفضون آثار الحروب وذكرياتها المتيبسة على جدران قلوبهم يسترخون على تلك المقاعد، تتهادى إلى آذانهم أصوات تبث في النفس شيئًا من الراحة تكسر ظلمة المشهد ألوان قادمة من شاشة العرض.

وهو جزء من فلسفة الاتحاد الأوروبي لدعم المشاريع ذات البعد التراثي والثقافي لتعزيز الهوية الفلسطينية، ويأتي هذا المشروع في إطار دعم الاتحاد المتواصل لمؤسسات المجتمع المدني، التي تساهم في التنمية الاقتصادية.

لا يتوفر وصف.

ينظر هشام مُطولاً من عينيه الممتلئتين حزنًا، يبتسم كطفل، ثم يهدأ، تتفاعل دقات قلبه مع بطلة الفيلم الأرنبة جودي هوبس فيحبس أنفاسه !، وكأنه يرى انعكاس حياته تتحرك أمامه، تشابه حياة الأرنبة - التي تواجه التنمر نظرًا لضعفها فتوضع أمامها أشواك وعقبات، حتى لا تصل لحلمها بأن تكون شرطية- حياة ذوي الإعاقة الذين يواجهون تنمرًا من بعض أفراد المجتمع و"يحرمون من وظائف عديدة أيضًا".

يومئ هشام الذي لا يستطيع النطق إلا من همهمات غير مفهومة برأسه؛ كما لو أنه قال "أنا سعيد جدًا" تفرد شفتاه ابتسامة عريضة، وفي عينيه تقرأ الكلام السابق.

بينما تجلس صابرين شبات (26 عامًا) في الصف الأول لمقاعد الباص بجوارها تضع عكازين ترخي رأسها للخلف، وقد بدأت شاشة العرض المثبتة داخل الباص ببث الفيلم وكأنَّها حصلت على تذكرة سفر وفسحة فرحٍ من بين ضغوط الحياة، تنصت لصوت الفرح المنبعث من داخلها : "أول مرة في حياتي أشاهد فيلمًا خارج منزلي، فلا أبالغ إن قلت أني لا أجد كلمات تعبر عن فرحتي الآن".

لا يتوفر وصف.

حواس منسجمة

على المقعد المجاور لها تنسجم سهاد عزام، بكل حواسها مع الفيلم بعد مرور نحو ربع ساعة على بدء العرض، تبتسم تارة، تضحك، تصاب بالهول والذعور أحيانًا، تعيش مع أحداث الفيلم، بينما تشق الابتسامة في سنابل وجهها القمحي، تتسابق عبارات الفرح للخروج من مدخل فمها " استمتعت بفكرة الفيلم التي تتحدث عن القوي والضعيف إلى حد ما تشبه حياتنا في الواقع".

في داخل الفيلم، تواصل الحيوانات المتنمرة وضع العقبات أمام الأرنبة التي تدعى "جودي هوبس"، أصوات المتنمرين تتعالى مع كل عقبة يضعونها في طريقها: "هلكتي يا وجه الجزرة" ثم يتآمرون عليها فيوضعون أمامها جدار جليدي ويطلب منها رفع الراية البيضاء "استسلمي؛ أم الفروة لقد انتهيتي"، يتساءل آخر بتهكم وسخرية "لا يوجد شرطي أرنوب، أنت مجرد مزارعة الجزر"، تُدخل الأرنبة لحلبة مصارعة فيلكمها الدب لكمة قويةً.

تراقب سهاد وبقية الحضور، الأرنبة جودي التي، ظنوا أنها انتهت، لكنها تدربت لتصبح قوية، فتجاوزت الحاجز الجليدي، وعادت للحلبة واستطاعت التغلب بحيلة ذكية على الدب، ليعينها عمدة الشرطة في المدينة الأسد شرطية، في حفل أمام جموع الحيوانات، اعتلت خشبة الحفل ومنحت وسام التعيين بجهاز الشرطة كأول أرنبة تنال "هذا الشرف"، فقالت للعمدة: "كان حلمي منذ الطفولة" بينما أثنى عليها أرنب آخر: "حقا إنه يوم فخر للكائنات الصغيرة" بينما مزيج من الخوف والفرح يتزاحمان في قلبي والديها، يخشيان عليها من الأسود، والذئاب، والثعالب.

لا يتوفر وصف.

مشاهدات كبيرة

لقيت فكرة الباص استحسان وإعجاب كثيرين من أهالي القطاع فهذا الباص غريب التصميم من الخارج والداخل يأسر الأنظار أينما حل وارتحل، فيما تمكن أكثر من 30 ألف شخص من مشاهدة الأفلام التي يعرضها الطاقم من داخل الحافلة، نتيجة مشاركة الباص في مبادرات ورحلات وأيام ثقافية في مختلف مناطق القطاع وهو يجوب القطاع شرقًا وغربًا وشمالاً وجنوبًا وصل إلى مناطق نائية.

تكسو الباص الذي اصطف، أمام مركز تأهيل ذوي الإعاقة بحي التفاح شرق مدينة غزة وبدأ بعرض الفيلم، واجهة صفراء من الخلف حتى المنتصف يتحالف مع لون الغروب؛ في المقدمة واجهة بيضاء يتوسطها شعار الاتحاد الأوروبي الأزرق.

لا يتوفر وصف.

من الخارج تتوسط الباص شاشة عرض خارجية ليلية يمكنها عرض فيلم لنحو 500 شخص يجلسون على مقاعد خارجية، يوجد بجوارها باب يفتح باتجاهين به قاعدة متحركة للأسفل والأعلى مواءمة لذوي الإعاقة وخلفه ستارة تمنع تسلل الضوء لقاعة السينما، وفي المقدمة توجد قمرة القيادة وغرفة تحكم بالصوت وشاشات العرض بأحدث التقنيات والتكنولوجيا.

في الداخل تحتوي قاعة السينما على 61 مقعدًا بلونها العنابي؛ في كل صف سبعة مقاعد يفصل بينهم ممران، ثم يبدأ تدرج المقاعد بالارتفاع تدريجيًا للأعلى فتكون المقاعد من الخلف مائلة كأنك تجلس في سينما تمامًا، تعلو سقفه من الخارج طاقة شمسية لتوفير الطاقة لتوليد الكهرباء دون الحاجة لتمديد وصلات كهربائية خارجية، في الداخل توجد شاشة عرض مثبتة، يحتوي على سماعات طبية لا تزعج المشاهدين.

تزين سينما الباص مصابيح انارة سينمائية متوهجة باللون الأصفر الخافت تعطي رونقا جميلا للمكان، مزودة أيضًا بنظام تهوية وتبريد، وعازل للصوت وكأنه يعزل الحضور عن عالم البؤس والفقر الذي يفرش أوتاده في أزقة وشوارع غزة بينما يتجول بهم الباص وسط الشوارع وضجيج السيارات لكنهم لا يشعرون بها ولا يسمعون أصواتهم بفضل عاز الصوت الذي زود الباص به.

مزود الباص بدرج طوارئ خارجي، انتظر القائمون على المبادرة سنة حتى دخل الباص غزة واجريت عليه تعديلات بحيث زاد عرضه عن الحافلات العادية بنحو مترٍ من جهة اليمين نحو الخارج.

لا يتوفر وصف.

مشاهدة لأول مرة

ابتسمت مدربة ذوي الإعاقة نشوى الشوا وأبدت إعجابها بمحتوى الفيلم الذي يتشابه مع حياة "ذوي الإعاقة" فتقول: "أصبح عمري 52 عامًا؛ لكني لأول مرة في حياتي أرى مثل هذه الفكرة، لأول مرة شعرت بشيء جميل يختلف عن مشاهدة الفيلم عبر الهاتف المحمول أو التلفاز عن نفسي أشعر بمتعة عندما أشاهد الرسوم المتحركة فما بالك الأطفال!؟".

تقاطع صوتها تنهيدة عبرت مجرى حديثها "كم كنت أتمنى مشاهدة السينما منذ طفولتي؛ وها قد تحقق حلمي"، تحدق بذوي الإعاقة ولا زال الفيلم معروضًا بنبرة تعاطف "هذه الفئة لا تخرج من بيوتها كثيرًا، ليس كل أهالي ذوي الإعاقة يهتمون بأولادهم حق الاهتمام، منذ أن أخبرناهم بأمر السينما كانوا يتجهزون ويترقبون بشغف مرور الوقت، واليوم حضروا لمركز التأهيل مبكرًا، سمعوا عن السينما لكنهم اليوم تعرفوا عليهم".

يواجه ذوو الإعاقة إهمالا أسريًا ،كما تعتقد المدربة، لأن الأهل في نظرها يهتمون في الأبناء غير المعاقين، أيضًا تحد العوامل الاقتصادية الصعبة من مقدرة الاهالي على إخراج أبنائهم للتنزه.

لا يتوفر وصف.

في المقاعد الخلفية، لم يترك أمجد كلوب (18 عامًا) أي مشهد من المشاهد تمر، كان يتوسد يديه ويحدق بشاشة العرض ينصت بكل حواسه، تابع أحداث الفيلم حتى النهاية، يقول بينما تقطر عبارات الفرح من صوته وتحتل الابتسامة أركان وجهه: "لأول مرة تغمرني سعادة كبيرة؛ لقد تابعت أحداث الفيلم وهي تعبر عن واقعنا كذوي إعاقة، يظن الجميع أننا ضعفاء، لكن مثل هذا الفيلم يبعث في النفس الأمل بأننا يجب أن نتحدى النظرة المجتمعية الضيقة ونواصل نحو أحلامنا مهما كان الثمن".

انتهى الفيلم، التزم الحضور مقاعدهم، فقد مرت الدقائق سريعة لا يريدون الخروج من الحافلة التي فتحت لهم نافذة أملٍ جديدة على الحياة، وشحنت طاقاتهم بالمحتوى المعروض بأن يبقوا متشبثين بأحلامهم مهما كانت الصعاب والتحديات وأن يعيشوا حياتهم كما يحبون وليس كما يريد الآخرين، لكن الباص كان يستعد لجولة عرض أخرى لرياض الأطفال فنزل الجميع.

في الخارج تتحرك يدي ميساء سالم وهي من ذوي الإعاقة السمعية لمدربتها، يتبادلان أطراف الحديث بالإشارات عن الفيلم، تترجم المدربة ما عبرت عنه ميساء، "أجلس دائمًا في بيتي، ولا أخرج إلا بالمجيء لمركز التأهيل، شعرت باسترخاء وراحة وأنا أشاهد أحداث الفيلم واستمتعت في اللحظات التي قضيتها على تلك المقاعد".

أكثر ما يدخل الفرح إلى قلب منسق المبادرة الشاب محمد المجدلاوي، الذي يرافق الباص في كثير من الجولات الثقافية هي اللحظات التي يذهب فيها إلى المناطق الحدودية المهمشة والتي تفتقر إلى الخدمات ولأدنى مقومات الحياة، فتبث في قلوبهم سعادة وفرحة وسط كومة معاناة تكبل هؤلاء الأهالي.

هذه المشاهد التي تجثم على ذاكرة محمد تتحرك أمامه " ذهبنا لمناطق حدودية نائية في رفح وبيت حانون، ومناطق شبه صحراء، قمنا بتنظيم أنشطة ترفيهية ثم إدخالهم للباص لمشاهدة السينما، كانت الفكرة غريبة عنهم، صدقًا رأينا دموع الفرح أمامنا".

لأكثر من عام انتظر محمد وفريق المبادرة، دخول الباص لغزة ويتحقق حلمهم، لكن قبل ذلك كانوا ينظمون السينما في الشوارع مع استمرار اغلاق دور العرض في القطاع، تركز أغلب الأفلام المعروضة على "نبذ العنف والسلام" وتستهدف فئة الأطفال والطلائع والشباب، مردفا: "لقد أفادت الفكرة جميع الفئات المستهدفة، وكانت ملفتة رائعة زرعت السعادة في قلوبهم".

إعادة النبض للسينما

ولا يوجد في قطاع غزة أي دور للسينما منذ خمسينيات القرن الماضي حيث كانت تزدهر في القطاع بشكل كبير ولكنها أغلقت أبوابها بعد أن اندلعت شرارة الانتفاضة الفلسطينية الأولى نهاية عام 1987م، وجرى بعد دخول السلطة عام 1994 محاولة لإصلاحها وإعادة افتتاحها دون جدوى ليظل القطاع دون أي دار سينما وسط موجة جديدة من التوتر السياسي، فهل سيكون باص السينما نافذة أمل تعيد الحياة إلى دور العرض في القطاع!؟.

للعروض السينمائية التي يقدمها الباص أهداف تربوية تعمل على نبذ العنف وغرس قيم السلام والتسامح والتعاون وقيم تتعلق بالصداقة والمحبة والألفة والقيم المجتمعية، تستهدف ثلاثة فئات وهي الاطفال والطلائع والشباب، ولكل فئة هناك دليل أفلامها وأنشطة ينظمها الطاقم قبل عرض الفيلم، وفي ختام العرض يعقدون حلقة نقاش مع المشاهدين لترسيخ مفاهيم الفيلم. والكلام لمنسق الأنشطة في الباص حسام وشاح

لم تعد فكرة الباص مجرد مبادرة، حسبما يذكر وشاح، بل أصبح مشروعًا ينفذ عروضًا مجانية لها هدف وأثر مجتمعي كبير، موله الاتحاد الأوروبي، ويحظى بإقبال كبير من المدارس ورياض الأطفال على مشاهدة العروض، مؤكدًا أن وجود الباص عكس أمورًا عدة، فيفوق عدد من شاهدوا الأفلام عن ثلاثين ألف شخص.

يقول "هذه ليست أرقامًا بسيطة، بأن تصل لها وتتعامل معها مع اختلاق البقع الجغرافية، فكانت الفكرة أن الناس بدلا من الذهاب لدور السينما، تأتيك السينما لعندك فوصل الباص لمناطق حدودية ونائية جدًا ومهمشة".

زيادة وعي تربوي

ترى المتخصصة في علم الاجتماع الدكتورة ختام أبو عودة أن الأفكار الجديدة التي تتعلق بالدعم المعنوي والنفسي لأطفال فلسطينية مميزة ومهمة جدًا، لزيادة الوعي الأخلاقي والتربوي والديني لهم، تنمي لديه الإبداع والتخيل، خاصة في ظل الضغوط والأزمات التي يعيشونها بطفولتهم سواء بسبب الأزمات أو الكوارث، والحروب والحصار وضغوط الأهل، والكلام السلبي الذي يسمعه الأطفال داخل البيت، فتخرجهم السينما من هذه الضغوطات.

هذا ما ينعكس على سلوكهم وأفكارهم لتهيئة الأجواء النفسية لهم سواء داخل المدرسة أو البيت في ظل محدودية الأماكن الترفيهية في القطاع، فيما ترتفع رسوم دخول الأماكن الترفيهية الخاصة، بالتالي يوفر باص السينما الترفيه والتسلية بدون دفع رسوم كوننا نمر بوضع اقتصادي سيء، كما أن المكان آمن لسلامة الأطفال والتباعد الاجتماعي، وللترفيه ولتعزيز دور الثقافة والفن في خدمة المجتمع. بحسب أبو عودة

تفتقد غزة وفقًا للمخرج السينمائي ورئيس ملتقى الفيلم الفلسطيني سعود مهنا، لهذا النوع من العروض في ظل "القهر السيمائي الذي تمر به غزة وفلسطين"، معتبرًا المشروع رائدًا، يجب تشجيعه.

ويقول، "إن مشاهدة الفيلم داخل الباص شيء جميل نحن في حاجة ماسة لهذا المشاريع والمبادرات الجميلة التي تنمي الذوق السينمائي لدى الجميع، وهو مشروع رائد وريادي وفكرة جديدة تفيد المجتمع لأن السينما – ومن خلال الباص – ستصل لكل حارة ومخيم ومكان في القطاع، وهذا ما يضفي "لونا جميلا" على السينما وإفادة كبيرة للمتلقي والمجتمع والأسرة و لجميع المراحل سواء أطفال وشباب.

 

لا يتوفر وصف.

لا يتوفر وصف.

لا يتوفر وصف.