هذه توقعات لا أساس لها لسبب بسيط جدا أن الاسعار مرتفعة أصلا، وفي ارتفاع مستمر لأسباب محلية وعالمية وما الحديث عن توقعات بارتفاع 15 أو 20 أو 30 بالمئة إلا واحد من اثنين إما جهل في حقيقة الأوضاع المعيشية التي تقسو يوما بعد يوم، لدينا خصوصا وفي العالم بشكل عام، وإما أن أحدا أو فئة ما معنية بترويج هكذا شائعات تمهيدا لفعل إجرامي لتصريف مواد محتكرة أصلا.
أما أسباب موجة ارتفاع الأسعار التي نعيشها منذ أشهر أو منذ أكثر من سنة، فهي عديدة.
أولا، على الصعيد المحلي، فإن وجودنا ضمن غلاف جمركي واحد مع إسرائيل يعني أن مواطن في اقتصاد معدل دخل الفرد فيه لا يتجاوز 3 آلاف دولار سنويا (فلسطين) مطلوب منه دفع نفس الأسعار التي تحددها آليات اقتصاد معدل دخل الفرد فيه يتجاوز 40 ألف دولار (اسرائيل)، فالمواطن الفلسطيني يدفع نفس الضرائب والجمارك وبالتالي نفس الأسعار التي يدفعها الإسرائيلي، رغم أن معدل دخل الثاني (قياسا إلى الناتج المحلي الإجمالي) يتجاوز 13 ضعف معدل دخل الأول.
هذا يعني أن بروتوكول باريس الاقتصادي هو الوسيلة الأحدث لجعل حياة الفلسطيني مستحيلة هنا في بلده، وبالتالي تهجيره، بدلا من ارتكاب المجازر كوسيلة اتبعها الاحتلال في أربعينيات القرن الماضي لتهجير الفلسطينيين، والتغيير المستمر في قوانين المواطنة دون الإعلان عنها، وهي الوسيلة التي اتبعت بعد عام 1967 حتى تسعينيات القرن الماضي.
يضاف إلى ذلك غياب أي قدرة أو إمكانية، أو حتى ارادة لدى السلطة الفلسطينية، لتغيير هذا الواقع بسياسات نقدية ومالية واقتصادية مناسبة لاقتصادنا، حيث تسعى لتقليص العجز المالي عبر توسيع العجز في الميزان التجاري.
أما عالميا، فإننا نستورد حوالي 95 بالمئة من احتياجاتنا من الخارج ومن "إسرائيل"، ونستورد مع هذه السلع والخدمات أية تغيرات في معدل التضخم، وهو الآن عالميا، يرتفع بأعلى وتيرة منذ حوالي عقدين لماذا؟.
لجأت الدول، جميع الدول تقريبا، في بداية جائحة كورونا، إلى فرض قيود واغلاقات شبه كاملة، لكل أنشطة الحياة تقريبا، في جانبي الاستهلاك والإنتاج، وبدءا من آيار 2020، بدأت هذه الدول برفع تدريجي لهذه القيود، داخليا، بوتيرة أسرع من رفع القيود على السفر والتنقل بين الدول، وتسارعت عملية رفع القيود في 2021، لكن رفع قيود الإنتاج والنقل كانت وتيرتها أقل بكثير من رفع القيود على الانشطة التي تزيد الاستهلاك.
لهذا فإن الطلب ارتفع بشكل كبير ومفاجئ، دون أن يواكبه ارتفاع في المعروض، سواء بسبب عدم وصول الإنتاج إلى طاقته الكاملة لما قبل كورونا، أو بسبب الارتباك الكبير في سلالسل التوريد.
وما رفع الطلب بهذا القدر من الجنون، اقدام الحكومات والبنوك المركزية حول العالم على ضخ أكثر من 16 تريليون دولار على شكل حزم تحفيز، اضافة إلى سياسات التيسير النقدي على شكل شراء سندات بتريليونات الدولارات من قبل البنوك المركزية، وخفض غير مسبوق لاسعار الفائدة، في مسعى لإتاحة سيولة في الأسواق، إضافة إلى ضخ مئات مليارات الدولارات من صندوق النقد الدولي على شكل حقوق سحب خاصة للدولة الأعضاء لدعم احتياطياتها، وكذلك سيولة بمئات المليارات اتاحها أيضا البنك الدولي . كل ذلك كان أحد الأسباب المهمة لارتفاع الطلب.
أيضا، شهدت فترة كورونا ارتفاعا غير مسبوق بالديون العالمية، دولا وشركات وكيانات اقتصادية وأفرادا، بتشجيع من السياسات النقدية المرنة والفائدة القريبة من الصفر في عديد الاقتصاديات، كالولايات المتحدة وأوروبا، وفي المحصلة ارتفع الدين العالمي إلى نحو 296 تريليون دولار كما في شهر أيلول 2021.
شهدت قفزة غير مسبوقة خلال فترة الجائحة، إذ بلغت في الاقتصادات المتقدمة وحدها (دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية وعددها 37 دولة) حوالي 5 تريليونات دولار، وقد بدأت الاسر بالفعل تحرير جزء من هذه المدخرات لتتحول للاستهلاك، وفي حال تحرير هذه الأموال فإن بدفع التضخم للخروج عن السيطرة.
وتعيش البنوك المركزية وضعا بين نارين، إما الأبقاء على سياساتها النقدية بالقدر الذي هي عليه الآن من المرونة والتيسير، فإن التضخم سيستمر بالارتفاع وربما يخرج عن السيطرة ليجد مئات ملايين الناس أنفسهم غير قادرين على شراء الحد الأدنى من السلع لبقائهم على قيد الحياة، وإما رفع نسب الفائدة وسحب برامج التحفيز النقدي، وهذا سيؤدي إلى موجة إفلاسات غير مسبوقة لشركات وبنوك وكيانات اقتصادية، وربما دول، لارتفاع كلفة الدين كل هؤلاء بالديون بتشجيع من سياسات التيسير النقدي، وهذا يعني تخلي البنوك المركزية عن المدينين بعدما رطتهم بهذا القدر الهائل من الديون.
إن المعطيات، والمؤشرات، تقول إن العالم مقبل على أزمة مالية غير مسبوقة، ربما تتجاوز تداعياتها أزمة الكساد الكبير في ثلاثينيات القرن الماضي، وأزمة الرهون العقارية في الولايات المتحدة في عام 2008 والتي تحولت فيما بعد إلى أزمة ديون سيادية في أوروبا في عام 2012، وكل هذا سببه طريقة تعاطي الحكومات والبنوك المركزية مع تداعيات جائحة كورونا، والتي أدت إلى تركز فغير مسبوق للثروات في أيدي فئة قليلة من الأثرياء أصلا، على حساب مليارات الأشخاص الذين يتهددهم الجوع والمرض.