شبكة قدس الإخبارية

درويش هناك آنذاك وهنا الآن

هيئة التحرير

زياد الزعبي

«في حضرة الغياب» نص تجتمع فيه تأملات محمود درويش المعبرة عن ذاته تعبيرًا عميقًا، نص تحضر فيه صور من حياته ونصوصه وأفكاره، نص يستعيد فيه ذاته وذاته الأخرى في برزخ زمني يتجاور فيه «الحضور والغياب» في بنية فنية منبثقة من الفلسفة الممعنة في تأمل جدل العلاقة بين الحياة والموت، بين الحضور والغياب، والمغرقة في معاينة العوالم «الجوانية» العميقة الشعورية واللاشعورية للإنسان حال إدراكه أن الحياة «ظلال شاردة».

ونص «في حضرة الغياب» نموذج فني مركب في التعبير عن هذه الفلسفة أو الحال، فهو ليس محصورًا في إطار استرجاع بعض صور حياته في ما يشبه السيرة الذاتية، السيرة التي تحضر مكوناتها في كل ما كتب درويش، ولكنه نص يقطر فيه سيرة حياته في صور من «التأملات الشاردة» التي لا تخضع لأنساق وأنماط كتابة السيرة الذاتية بالمفهوم النظري التقليدي. إنه يتأمل فيه - حلميًا أو خياليًا - سيرة حياة مشظاة بكل عناصرها ومراحلها، بدءًا من الطفولة، مرحلة الدخول في الحياة ومعاينتها في صورها الأولى المدهشة، حتى اللحظة الأخيرة التي يشعر فيها المرء بأنه سيخرج من الحياة ليدخل في عالم لا صورة له ولا وجود، لأن أحدًا لم يعد منه ليخبرنا عن معنى العدم الذي ينتظرنا، أو صورة الغياب الذي نمضي إليه. وبين هاتين اللحظتين يتشكّل وجودنا الواقعي والخيالي الذي نحاول أن نرويه لأنفسنا وللآخرين، ولكي نعبّر عن ذواتنا الهشّة المفردة المنذورة للغياب، وهذا ما جعل درويش يتأمل وجوده في مواقف متكررة يقترن فيها الحضور والغياب، منطلقًا من حس عميق بهشاشة الوجود الإنساني أمام جبروت الموت، والرغبة المتأصلة في التشبث بالحياة، وهو ما عبّرت عنه لازمته - عبارته الشهيرة «على هذه الأرض ما يستحق الحياة».

أنا وأنا الثاني

ثمة ظاهرة في شعر درويش وكتاباته عن حالة من التحديق في الذات ومحاورتها من خلال عملية تجريد تجعل الذات تعاين ذاتها الأخرى، أو الأنا «أناها الثانية» وهي عملية ظل درويش يجريها في صورتين:

الأولى تمثلها معاينة الذات في الماضي، إذ يستعيد صورًا من حياته بدءًا من الطفولة وحتى عتبة الراهن الذي يتحدد بزمن الكتابة.

والثانية تمثلها حالة التحديق في المستقبل، بوابة العبور إلى عالم الغياب.

وقد تكررت هذه الظاهرة في نصوص درويش الشعرية والنثرية على نحو شبه نسقي يعبّر عن حالة إنسانية مسكونة بتأمل الحضور في الغياب، والغياب في الحضور، سعيًا إلى القبض على ما لا يمكن القبض عليه: الحياة الماضية، وعلى ما لم يأت من زمن لا يدري هل نشهده أم لا. وقد عبّر درويش عن هذه الحال في صيغتين لغويتين:

الأنا تخاطب الذات المجردة في صيغة الأنت - المخاطب.

والأنا تخاطب الذات المجردة في صيغة الهُوَ - الغائب، وهما صيغتان ترسمان المسافة الفاصلة بين المتكلم والمخاطب زمانًا ومكانًا حقيقة وتخيّلاً.

أنا وأنت والموت

يفتتح درويش نصه «في حضرة الغياب» بحوار مع أناه الثانية في نقطة الزمن التي تلتقي فيها لحظتان: الخروج من الحياة والدخول في حياة ثانية، وهو يصنع الحوار في صيغة أنا - أنت: «وكما أوصيتني أقف الآن باسمك كي أشكر مشيعيك إلى هذا السفر الأخير»، معبرًا عن أكثر اللحظات كثافة في الوجود الإنساني، لحظة الموت الذاتي الذي - كما يقول الفلاسفة - لا يعاين، لأن الإنسان يعاين موت الآخرين ولا يستطيع أن يعاين موته الشخصي، لكن درويش يكسر هذه القاعدة، كما فعل مالك بن الريب الذي اقتبس بيته: «يقولون لا تبعد وهم يدفنونني وأين مكان البعد إلا مكانيا»، ما يعني أننا أمام فعل شعري يجسّد صورة «الموت في الحياة»، وهذا فعل معبّر عن قسوة الموت المتخيّل المفكر فيه في مقابل الموت الواقعي المريح. وقد شخّص درويش هذه الحال في أحد لقاءاته الصحفية بقوله:

«في كتابي الأخير «في حضرة الغياب»، وهو كتاب شبه سيرة.. إنه خطاب وداع حيث أقف على حافة القبر، فأنا هو الآخر الموجود في القبر»، وبقوله في اللقاء نفسه: «تقابلت مع الموت مرتين: مرة في العام 84 والأخرى في العام 98 حينها مت سريريًا وبدأت التحضيرات لتشييعي..».

إن مثل هذا التأمل لواقعة الموت الذاتي يقترن برؤية فلسفية للتغلب عليه، وهي تتجلى في صيغة الأنا والأنا الثانية، الأنا الباقية في اللغة، والأنا الترابية الذاهبة إلى هوة التلاشي، وخطاب درويش عن هذه الحال الثنائية خطاب تخيلي تأملي يقوم على التجريد، يقول:

«ولنذهبن أنا وأنت في مسارين: أنت إلى حياة ثانية وعدتك بها اللغة في قارئ قد ينجو من سقوط نيزك على الأرض. وأنا إلى موعد أرجأته أكثر من مرة مع موت وعدته بكأس نبيذ أحمر..».

وهو يمعن في هذا الحوار الذي يتأمل فيه قصر الحياة أو لحظيتها وجبروت الغياب في رؤية ذاته «هنا» و«هناك» في الوقت نفسه، هنا الممثلة لحظة الوجود الآني التي لا يستطاع القبض عليها، وهناك التي تتجسد في الماضي المتحقق والقارّ في المخيلة والذاكرة وجودًا أكثر ثراء وجمالاً وأعمق من صورته الحقيقية الماضية، وهناك الآتي الذي لا وجود حقيقيًا له، لأنه مكان التلاشي أو العدم. هنا وهناك مكانان مقترنان بزمنين الآن وآنذاك، وقد أمعن درويش في تأملهما، ففي قصيدة «الآن.. في المنفى» في ديوان «كزهر اللوز أو أبعد» تعبير جارح عن الإحساس بالزمن - الآن، يقول:

الآن، في المنفى.. نعم في البيت في الستين من عمر سريع يوقدون الشمع لك فافرح بأقصى ما تستطيع من الهدوء لأن موتًا طائشًا ضل الطريق إليك وأجلَّك وفي الديوان نفسه يخاطب درويش نفسه: أهجس أهمس في السر: عش غدك الآن! مهما حييت فلن تبلغ الغد.. لا أرض للغد

إن هذه التأملات تملأ نصوص درويش وبخاصة ما كتبه في الهزيع الأخير من العمر، وتمتزج فيها صور التعبير عن الذات والتعبير عن المجموع، الشعب الفلسطيني، فمعاناة درويش وذاته المشظاة ذات فردية - جماعية في الوقت نفسه، لأنها تشكّلت في إطار تلاشت فيه الفروق بين الفردي والجماعي، إطار تجلت فيه صور الموت في حالات مرعبة متكررة، بدءًا من الاقتلاع الجماعي من البيت والطفولة والأرض، ومرورًا بكل المنافي وصولاً إلى العودة إلى الوطن الحلم، حيث تكثف حضور الموت ودمويته.

إن قراءة متأنية لكتابات درويش في السنوات العشر الأخيرة من عمره بخاصة لتضع القارئ أمام نصوص شعرية وكتابات تدور على محاورات متصاعدة لجدل الحياة والموت الفردي والجماعي في آن، محاورات تحل الفلسفة في الفن في صور وأفكار مدهشة معبرة بجمال جارح عن ذات ومجتمع عاشا مقرنين بالموت ومتشبثين بالحياة، ولذا تتكرر في نصوصه عبارة «عشت لأن يدا إلهية أنقذتك» أو أن «الموت ضل الطريق إليك وأجلك»، وصيغ شعرية عديدة أخرى تعبر عن هذه الحال. وتمثل هذه العبارات نمطًا لغويًا منبثقًا من واقع دام متكرر عبر التاريخ الفلسطيني، ولذا فإن اليد الإلهية المنقذة التي تحدث عنها درويش في حضرة الغياب بوصفها من أنقذه من ميتات كثيرة هي نفسها التي تنقذ البنت على شاطئ غزة في النص الأول في «أثر الفراشة» المعنون «البنت/الصرخة» حيث نقرأ:

... والبنت تنجو قليلاً لأن يدا ما إلهية أسعفتها

إن مثل هذه النصوص لتمثل إيقاع الحياة في أرض اغتصبتها الأسطورة المسلحة بالنار والحقد، ومحورت حياة البشر فيها حول جدل الحياة والموت، حول الوجود هنا وهناك، حول المنفى والوطن، حول الآن وآنذاك، مما شكّل واقعًا فرض نمطًا فريدًا من حياة يحكمها التشظي واقعيًا ونفسيًا، وقد استطاع درويش التعبير عن هذا الواقع الإنساني تعبيرًا حسيًا نفسيًا وفكريًا من خلال ذات مثلت الحال الجماعية، وهذا ما جعل صوت الشاعر الفرد وسيرته صوت الشعب الفلسطيني وسيرته. ولعل فصول «في حضرة الغياب» تمثل اللغة الأكثر وضوحًا.

استعادة الطفولة

يقول غاستون باشلار: «يعطينا الشعراء جوهر هذه الذكريات الكونية أكثر من كاتبي السير الذاتية». هذه المقولة تنطبق على مجموعة النصوص الشعرية والنثرية التي كتبها درويش مستعيدًا فيها طفولته، وشذرات حياته الموزعة على كل المنافي. وإذا تجاوزنا ما كتبه في «يوميات الحزن العادي» 1973، و«ذاكرة للنسيان» 1987، وهما يدخلان في باب الكتابة السيرية، وكذلك ديوانه «لماذا تركت الحصان وحيدًا» 1995 الذي يتأمل فيه شعريًا سيرته منذ طفولته، وهو الموضوع الذي سيعود إليه في قصائد عديدة في دواوينه الأخيرة مثل «لا تعتذر عما فعلت» - ووقفنا على ما قدمه في «حضرة الغياب»، فسنرى صور استعادة متكررة لما سماه درويش شبه سيرة، ولما نصفه بـ«التأملات الشاردة»، مستعيرين تعبير باشلار - سنقرأ نصًا فنيًا ثريًا له سمات السيرة، وسمات الشعر، نصًا يجمع بين ما يمكن أن يكون وقائع حقيقية، ووقائع مما يخلقه الخيال والفكر واللغة، وكل هذا في صور من التأملات التي تقود الفرد إلى الغوص عميقًا في ذاته ووجوده المستعاد محررًا من عبء السرد التاريخي. فعودة درويش إلى طفولته تتم في فصل شعري تحليلي تتعانق فيه الاستعارات بالأفكار، والتأملات بالرؤى الفلسفية، ما يعني أن الإنسان الراشد مسكون بطفولته التي «تطل بين الفينة والأخرى»، كما يقول درويش في لقاء صحفي، وهو قول لا ينسجم في الحقيقة مع صور طفولته التي تحضر في نصوصه على نحو يعبّر عن سطوة حضورها، حتى ولو كانت طفولة غير سعيدة، كما يقول في مديحه طفولته:

«ولم أكن طفلاً آنذاك، ولكني هو الآن في وداع يفتح لفعل الماضي الناقص باب المدائح على مصراعين: المكان المفقود والزمان المفقود. ليس المكان هو الفخ إذ يصير إلى صورة، ففي الذاكرة ما يكفي من أدوات التجميل لتثبيت المكان في مكانه، وما يكفي لترتيب الأشجار على ذبذبة الرغبة..».

هذا نص يظهر كيف نعيد بناء طفولتنا من خلال المسافة التي تفصلنا عنها، لتغدو الواقع الذي نراه وندركه الآن، وليس الواقع الذي كان، ولذا يغدو سيان إن كانت طفولة سعيدة أو شقية، وخير من عبّر عن هذا هو درويش نفسه في الجدارية حيث يقول:

أريد أن ألقي تحيات الصباح عليّ حيث تركتني ولدًا سعيدًا لم أكن ولدًا سعيد الحظ يومئذ، ولكن المسافة، مثل حدادين ممتازين تصنع من حديد تافه قمرا...»

وهذه الفكرة - المسافة التي تجعلنا نرى الأشياء لا كما كانت، ولكن كما نراها الآن من بعيد، تعني أن جاذبية الغياب التي تشدنا روحيًا وفلسفيًا وشعريًا إلى «طفولتنا» أو ماضينا، أو إلى كل ما نفتقد أو يغيب، أو يبتعد عنا، جاذبية تجعل المحبوب الغائب رمزًا مثاليًا للحب، وتجعل الوطن يتعملق حضورًا في المنفى، وتجعل من الطفولة والشباب الذاهب نموذجًا للسعادة وألق الحياة، حتى لو كان الواقع نقيضًا لهذا كله.

داء الحنين

يمثل الفصل الممتع العميق الذي خصصه درويش لمعاقرة الحنين تأملاً مدهشًا لجاذبية الغياب في كل أبعاده الممثلة في السعي النوستالجي لاستعادة ما فقدنا أو نفتقد: الطفولة، والشباب، والبيت، والوطن، والحب الأول، والروائح الأولى، وألم الجرح الأول.. الحنين فعل مقرون بالمتعة والألم، إنه داء كما يعرفه العرب، داء يجعلك تعيش هناك آنذاك وأنت هنا الآن، الحنين كما يقول درويش:

«هو اختصاص الذاكرة في تجميل ما احتجب من المشهد، وترميم شباك سقط دون أن يصل سقوطه إلى الشارع، والحنين قصاص المنفى من المنفي.. فأن تحن يعني أن لا تغتبط بشيء هنا إلا على استحياء، لو كنت هناك - تقول - لكانت ضحكتي أعلى وكلامي أوضح.. الحنين ندبة في القلب، وبصمة بلد على جسد. لكن لا أحد يحن إلى وجع أو كابوس، بل يحن إلى ما قبله، إلى زمن لا ألم فيه سوى ألم الملذات الأولى التي تذوِّب الوقت كقطعة سكر في فنجان شاي، إلى زمن فردوسي الصورة».

والقصيدة النشيد «أحن إلى خبز أمي وقهوة أمي ولمسة أمي..» تمثل حالاً نوستالجية تزداد رسوخًا بمرور الزمن وتعبر ببساطة وعمق عن ظاهرة إنسانية وجودية، ظاهرة الذات الإنسانية المتشبثة بوجودها الطفولي، جذر الحياة، الذي تحفظه الذاكرة في صورة وشوم حسية لا تغيب، بل يشتد حضورها كلما أمعنت في الغياب عنها. فرائحة الأم ورائحة خبزها وقهوتها تعيدنا إلى طفولتنا وأماكنها، ونحن نستعيدها في خريف العمر، إذ نميل - نحن البشر في خريف العمر - إلى العودة إلى طفولتنا، كما يرى الفلاسفة، وهو ما عبّر عنه درويش في حضرة الغياب حين تأمل بشاعرية مدهشة «خريف عمره» حيث استحضر الأمكنة ومتعلقاتها من الروائح التي تسكن الذاكرة:

«فالمدن رائحة: عكا رائحة اليود البحري والبهارات، حيفا رائحة الصنوبر والشراشف المجعلكة، موسكو رائحة الفودكا على الثلج، القاهرة رائحة المانجو والزنجبيل، بيروت رائحة الشمس والبحر والدخان والليمون، وكل مدينة لا تعرف من رائحتها لا يعول على ذكراها. وللمنافي رائحة مشتركة هي رائحة الحنين إلى ما عداها.. رائحة تتذكر رائحة أخرى، رائحة متقطعة الأنفاس، عاطفية تقودك كخارطة سياحية كثيرة الاستعمال إلى رائحة المكان الأول، الرائحة ذاكرة وغروب شمس، والغروب هنا توبيخ الجمال للغريب».

إن هذه الظاهرة في شعر درويش وكتاباته تمثل «موضوعة» منبثقة من تجربته الذاتية، ومن ثقافته العميقة المتعددة المصادر، وهو يلتقي فيها مع التصورات التي تطرحها الفلسفة الظاهراتية التي عبّر عنها غاستون باشلار بعمق ووضوح في كتابيه: «جماليات الكون»، و«شاعرية أحلام اليقظة»، حيث قدم فيهما، وبخاصة في الكتاب الأخير قراءة معمّقة أدبية فلسفية لظاهرة العودة إلى الطفولة مكانًا وزمانًا وأحلامًا، منطلقًا من أننا في خريف العمر نعود إلى طفولتنا، نعود إلى سعادتنا الماضية المفترضة، ويستشهد على هذا بسلسلة من النصوص الشعرية التي تعبّر عن ذلك يقول: «عندما قرأت بيت إدمون فاندركامن «طفولتي تبدأ من رغيف خبز الحنطة هذه» اجتاحتني رائحة خبز ساخن ببيت شبابي». أما درويش، فقد عبّر عن الفكرة في لغة شعرية أعمق حين يقول:

«تدخلك الذاكرة، وهي متحفك الشخصي، في محتويات الضائع.. في حقل سمسم وحوض خس ونعناع.. وفي قرص شمس يتهاوى في دخول البحر. يكبر الضائع فيك، ويكبر في هذا الغروب الذي يضفي على البعد صفات الفردوس المفقود، وينقّيه من كل سوء، فكل ما هو مفقود معبود. وهو ليس كذلك».

إن مقولة «كلما بعدنا عن مسقط رأسنا عانينا من عذاب روائحه» تمثل لدى درويش ما هو أعمق من البعد المجرد عن مسقط الرأس، وهو الإبعاد - النفي بالقوة، واغتصاب الآخرين بيته - مسقط رأسه، وهذا ما جعل الظاهرة لديه تأخذ صورة الموضوعة التي تقبع بحدة في وعيه وذاكرته وتتجلى في صور متنامية متعددة في نصوصه كلها، فمن خبز أمي في البدايات إلى ما عرضه بلغة شاعرية مشبعة بالفكر الفلسفي في حضرة الغياب، وكذلك في الجدارية التي يقول فيها:

كلما يممت وجهي شطر أولى الأغنيات رأيت آثار القطاة على الكلام. ولم أكن ولدًا سعيدًا كي أقول: الأمس أجمل دائمًا لكنّ للذكرى يدين خفيفتين تهيجان الأرض بالحمى وللذكرى روائح زهرة ليلية تبكي وتوقظ في دم المنفي حاجته إلى الإنشاد..»

هذه النصوص نموذج لسلسلة من النصوص الشعرية والنثرية المعبّرة عن محورية التصوّر القائم على جدل الحضور - الغياب بكل أشكاله التي تحكم الحياة الإنسانية في مستوياتها كافة، بدءًا من غياب آنٍ لمن ولما نحب، وانتهاء بالغياب المطلق، الموت. وقد جاء نص درويش «في حضرة الغياب» معبرًا في كل فصوله عن تأملات لكل ما غاب: الحياة، والطفولة والمكان والحب والأحداث والزمن السريع الجريان..، ولذا فإن كل ما يفعله الإنسان يكمن في حفظ كل ما يغيب في الذاكرة، وهذا نمط من التشبث الإنساني باستحضار ما يغيب وحفظه حيا في الذاكرة الفردية والجماعية على حد سواء، وقد عبّر درويش في مداخلته عن تقديم أدونيس له في الندوة التي أقيمت في برلين حول الشعر والذاكرة بالقول: «الذاكرة الفردية.. شاعرية ترتبط بشيء حميم وتحن إلى المكان الحميم، التي توقظ زيارته الواقعية أو المتخيلة كل ما في الزمن الماضي من جمال. إنها تعود دائمًا إلى طفولة دائمة، لكن الطفولة طارت، وربما يكون المكان قد تعرض لتغييرات جغرافية جعلته مكانًا آخر، وربما لم يعد البيت الأول موجودًا، لكن ذلك المتغير والغائب والمفقود وغير الموجود يبقى ثابتًا في الذاكرة».

مكعبات الفسيفساء

يصف درويش طقس الكتابة لديه بأنه يمضي إلى موعده الصباحي «إلى الغامض، إلى الهواية التي صارت حرفة، والحرفة التي ظلت هواية. فنجان القهوة على يسار المكتب وعلبة الأقلام على يمينه قرب دواة الحبر الأسود. وفي الوسط أوراق بيضاء ملأى بكتابة بيضاء تناديك وتناديها، وفيها ما فيها من ذاكرة السابقين المتخفية. وأنت وحدك بلا معين وبلا ضمان تحاول أن تعثر على سطرك الأول الخاص بك في هذا الزحام الأبيض الممتد بين الكتابة والكلام..».

هذا الوصف الواضح يعبر عن وعيه بأن فعل الإبداع لا ينبثق من الذات الفردية، ولكنه يتخلق في البنية الثقافية والمعرفية للمبدع، وأنه بالتالي يحمل ملامح جماعية، وقد أبان عن هذا التصور بدقة في حواره مع عبده وازن حين قال: «في كل شاعر تاريخ الشعر منذ الرعويات الشفهية إلى الشعر المكتوب، من الشعر الكلاسيكي إلى الشعر الحديث. ثم إن الشاعر يخاف من قراءاته أن يقفز منها شيء إلى نصه في طريقة لاواعية، شيء ملتبس يكون في ذهنه، وأعتقد أن ليس من نص خاص لشاعر معين. الشاعر يحمل خصائص أو ملامح جميع الشعراء الذين قرأهم، ولكن من دون أن يخفي ملامحه..».

لعل هذه المقولات تفتح بابًا واسعًا لمحاورة نصوص درويش من زاويتين: علاقته بمرجعياته المعرفية المتعددة المصادر والطبقات، وكيفيات حضورها في نصوصه، وعلاقات نصوصه بعضها ببعض، ذلك لأن ثمة ظاهرة تبرزها فصول « في حضرة الغياب»، وهي أن هذا النص يكاد يكون بنية فسيفسائية جديدة من نصوصه السابقة، فثمة عدد كبير من المواطن التي تحيل نصيًا ودلاليًا على نصوصه الشعرية والنثرية السابقة، وهذا فعل منبثق من أن النص الراهن تأملات في سيرة ما سبق، تأملات في مواقف من الحياة الشخصية، والفكر والسياسة، والفن، والحب، والحنين، وكلها مقترنة بثنائية الحياة والموت. وهو في تعبيره عنها يمتلك ذاكرة مدهشة قادرة على استحضار النصوص الدينية والأسطورية من الثقافة العربية وثقافات العالم ويذوبها في أرض نصه، ليغدو نصه لوحته الفنية الخاصة به، وهو يفعل ذلك مستندًا إلى قوة خلاقة، وثراء معرفي وفكري مدهش، وذاكرة فعّالة، وقدرة غير عادية على بناء فني مركب يمزج الصورة بالفكرة، والشعر بالفلسفة، والإبداع الذاتي بالاستعارة، ليقدم لنا وللقرّاء في العالم نموذجًا للغة فنية باهرة لا تعبّر إلا عنه.

«في حضرة الغياب» تأمل لحضرة الموت الذي عايشه درويش وجربه بإيقاع يشبه إيقاع حياته وحياة شعبه، تأمل لموت ظل رفيقًا لذات إنسانية تمثل الحال لشعب ظل يحلم بالحياة ويقبض عليها، وينتزعها من بين مخالب الموت، من هنا فقد كان جدل درويش مع الموت جدلاً مع الحياة في أبعادها العميقة في الوقت نفسه، فمَن لا يتأمل لا يعرف الحياة.

...

نشرت في مجلة العربي