"سطح رمادي خشن يطل عليك من الأعلى. هذا أول شيء تراه عندما تفتح عينيك في الصباح. إنه أسفل سرير الأسيرة فوقك مباشرة". هكذا تصف الأسيرة المحررة والكاتبة الصحفية، سلام أبو شرار، 27 عامًا، اللحظات الأولى من يوم أي أسيرة فلسطينية في سجن الدامون، مركز الاعتقال الذي يحتجز فيه الاحتلال الإسرائيلي الأسيرات الفلسطينيات منذ عام 2018. "أنت لا تستيقظ في الواقع"، تشرح سلام أبو شرار "إنها أصوات السجانات وهن يصرخن في الممرات كل يوم في السادسة صباحًا من يوقظك. يمشين في الأقسام ويفتحن الزنازين واحدة تلو الأخرى كي نخرج للعد. علينا أن نكون مستعدات قبل أن يصلن إلينا، وإلا فقد نعاقب بالحبس الانفرادي".
خلال عام 2020 اعتقل الاحتلال 128 امرأة فلسطينية من كافة الأعمار، كما وصل عدد الاعتقالات بحق النساء في النصف الأول من العام 2021 إلى 107. منذ عام 2018، يتم احتجاز جميع النساء الفلسطينيات الأسيرات لدى الاحتلال في سجن الدامون، بالقرب من حيفا، حيث يعانين، كما تؤكد منظمات حقوق الإنسان، من ظروف اعتقال غير إنسانية. لم يزل الاحتلال يحتجز قرابة 40 امرأة فلسطينية، بينهن 11 أما، إحداهن الأسيرة أنهار الديك، التي تمر بأيام حملها الأخيرة، ويتوقع أن تضع مولودها قريبًا، لتعود به إلى زنازين الدامون.
"عندما يبدأ العد الصباحي، تدخل السجانات الزنازين ويفتشننا. تروي سلام أبو شرار: "يفتشن ملابسنا وأغراضنا الشخصية. وعندما ينتهين، يتعين علينا العودة وإغلاق الزنازين. الزنزانة عبارة عن غرفة مساحتها 6 × 3 أمتار ويقيم بداخلها ما يصل إلى 8 سجناء، وتوجد مساحة كافية لشخصين أو 3 أشخاص ليقفوا خارج أسرتهم في نفس الوقت. هذه المساحة هي عالمنا، معظم الوقت".
إسطبل الخيول الذي أصبح سجنًا
في آخر إضراب جماعي للأسرى الفلسطينيين عام 2019 كان نقل الأسيرات من سجن الدامون إلى معتقل آخر يوفر ظروف اعتقال تضمن الحد الأدنى من الكرامة الإنسانية من أهم مطالب الأسرى المضربين. نص اتفاق إنهاء الإضراب نقل الأسيرات من سجن الدامون، لكن الاحتلال لم يلتزم بالاتفاق. احترام غزاونة، رئيسة وحدة التوثيق في مؤسسة الضمير، توضح أن “الظروف المعيشية في سجن الدامون لم تتغير على مدى الثلاث سنوات الماضية. المبنى نفسه يمثل مشكلة. إنه قديم ورطب وبارد، ويفتقر إلى مرافق النظافة والمساحة الكافية والخصوصية، التي هي ببساطة غير موجودة".
الأسيرة المحررة سماح جرادات، 24 عامًا، تتذكر الأيام الأولى لاعتقالها في أيلول 2019؛ "اقتحم جيش الاحتلال منزلنا قبل الفجر، وأيقظ عائلتي، ثم اقتادني إلى قاعدة عسكرية. قضيت هناك عدة ساعات، وانتقلت من غرفة إلى أخرى قبل أن يأخذوني أخيرًا إلى مركز تحقيق في القدس ”.
أمضت سماح 22 يومًا في مركز تحقيق الاحتلال في القدس، ثم نُقلت إلى سجن الدامون. " تم نقلي في البوسطة "، ذلك الصندوق الفولاذي الذي ينقلون فيه الأسرى. إنه مغلق تمامًا تقريبًا، مع فتحة صغيرة بالقرب من الجزء العلوي، حيث يمكن للمرء أن يلمح شيئًا من الطريق في الخارج. كان المشهد من فتحة "البوسطة" يصبح أكثر اخضرارًا، ما يعني أننا نتجه نحو الشمال. ثم شعرت أن الطريق تتحول صعودًا، كما لو كانت البوسطة تصعد جبلًا. كان في الواقع جبل الكرمل قرب حيفا ".
تم بناء الدامون على قمة الكرمل في ثلاثينيات القرن الماضي، في ظل الانتداب البريطاني، لكن لم يكن من المفترض به أن يكون سجنًا. تم استخدامه في البداية كأسطبل للخيل، ثم تحول إلى مصنع للتبغ، وفي عام 1953 بدأت السلطات الصهيونية استخدام المكان كمعتقل. في عام 2000 تم إغلاقه لفترة وجيزة، ثم أعيد فتحه خلال الانتفاضة الثانية.
"لا خصوصية على الإطلاق"
تصف سماح جرادات داخل سجن الدامون بأنه "تناقض صارخ مع الطبيعة الخضراء المحيطة. بمجرد عبوري المدخل وجدت نفسي داخل غابة لا نهاية لها من الفولاذ. كل شيء مصنوع من الفولاذ الأزرق الفاتح والرمادي. حتى الساحة مغطاة بشبكة من الأسلاك الفولاذية، نحصل من خلالها على لمحة يومية عن الشمس لمدة ساعة واحدة ".
هذه الساعة من الشمس هي أثمن اللحظات في يوم الأسيرة في الدامون، كما توضح سلام أبو شرار. "ساعة "الفورة" كما نسميها، هي بين الساعة الثامنة والتاسعة صباحًا حيث يُسمح لنا بالخروج إلى الساحة. هناك يمكننا النظر إلى السماء والحصول على بعض الشمس عبر شبكة الأسلاك الفولاذية فوق رؤوسنا. نستخدم هذه الساعة لاستخدام غرف الاستحمام الموجودة على الجانب الآخر من الساحة، ما يعني أن الحراس يراقبوننا ونحن نعبر إلى الحمامات ذهابًا وإيابًا".
انتهاك الخصوصية كان قضية كبرى للأسيرات الفلسطينيات، حتى قبل أن يتم نقلهن إلى الدامون، كما تشير احترام غزاونة. ففي عام 2018 نفذت الأسيرات في سجن هشارون سلسلة احتجاجات على تركيب كاميرات مراقبة داخل زنازينهن، وكان رد فعل الاحتلال على احتجاجهن أن قام بنقل جميع الأسيرات إلى سجن الدامون، حيث تم تركيب الكاميرات في جميع الأماكن، وإن كانت داخل الزنازين معطلة.
تشير سماح جرادات إلى أنه “عندما أدخلت إلى القسم حيث كانت زنزانتي، صدمت عندما رأيت أننا كنا تحت المراقبة طوال الوقت من خلال الكاميرات. فمعظم الأسيرات يرتدين الحجاب، ولا يمكنهن خلعه إلا داخل الزنازين. ببساطة لا توجد خصوصية على الإطلاق، "لقد استغرقني الأمر عدة أيام حتى أعتاد على ذلك".
ما يسمونه بالغداء..
تسرد سلام أبو شرار أن خلال ساعة الفورة "نغتنم الفرصة لغسل ملابسنا وتعليقها حتى تجف في الساحة، حيث يتم تفتيشها بانتظام من قبل الحراس". ثم نعود إلى الأقسام أو الممرات الداخلية بين الزنازين. يجب أن نبقى داخل الزنازين طوال الوقت، لكن يمكننا التنقل فيما بينها. ثم في الواحدة بعد الظهر يحضرون الغداء، أو بالأحرى، ما يسمونه بالغداء ”.
منذ عام 2018 تصاعدت التنديدات بتدهور جودة الطعام في سجون الاحتلال، خاصة في الدامون. "هذا التدهور بدأ في الظهور عندما نفذت إدارة السجون حملة تضييقات على ظروف اعتقال الأسرى الفلسطينيين"، عملًا بتوصيات وزير الأمن في حكومة الاحتلال آنذاك، جلعاد أردان، تشير احترام غزاونة. "بدأ الطعام يصل بكميات ونوعية رديئة، خاصة بالنسبة للنساء”.
وتوضح سلام أبو شرار أن "الأرز غالبًا ما يكون غير مطبوخ. أما الدجاج، اللحم الوحيد الذي نحصل عليه، بالكاد يكون مسلوقًا، دون بهارات أو حتى ملح"، كما تذكر سماح جرادات أيضًا أنه "غالبًا ما وجدنا بقايا ريش على جلد الدجاج. كان غير صالح للأكل في معظم الأوقات، وكان علينا شراء طعامنا بأنفسنا من "كانتين"، أو متجر السجن. في الغالب نشتري الطعام المعلب ونعيد طهوه مرة أخرى". تضحك سلام أبو شرار فيما تتذكر. "كنا نبتكر وصفات جديدة من طعام السجن شبه النيء والطعام الذي نشتريه، ويأخذنا الإبداع في فن طبخ السجون".
وما يسري على الطعام يسري على سواه من الأمور، كما تؤكد سماح جرادات: "باستثناء زجاجة واحدة صغيرة من الصابون ولفافة ورق الحمام كل أسبوع، لا تتوفر للأسيرات أي مواد نظافة. كان علينا، شراء حاجتنا منها من الـ "كانتين". يشمل هذا المزيد من الصابون، وورق الحمام، والشامبو ، ومعجون الأسنان، وجميع حاجات النظافة والصحة النسائية. ليس لدينا ما يكفي من البطانيات والقليل الذي لدينا يكون رطبًا وقذرًا ورائحته كريهة ".
بالنسبة للأمهات، فهو "عقاب وليس امتياز"
تشير احترام غزاونة إلى أن “ تفشي فيروس كورونا وفر ذريعة للاحتلال لمنع زيارات الأسرى عمومًا، ومنهم الأسيرات في سجن الدامون، منذ شهر آذار 2020 . ثم ومنذ تموز من العام نفسه سمحت من جديد بالزيارات للأسيرات في سجن الدامون مع شروط وقيود جديدة. فبدلًا من زيارة واحدة كل شهر، باتت تسمح بزيارة كل شهرين، مع إمكانية منعها تمامًا لأهالي الأسيرات من سكان مناطق مصنفة "حمراء" من حيث تفشي الإصابات بفيروس كورونا. بالنسبة للأمهات، تم إلغاء السماح بالاتصال الجسدي بأطفالهن لمدة لا تزيد عن عشر دقائق".
تؤكد سلام أبو شرار أنه حتى قبل منعه، كان السماح للأسيرة الأم بالاتصال الجسدي بطفلها أقرب إلى العقاب منه إلى الامتياز. فالأم تقضي الشهر بأكمله في التفكير في لحظة الزيارة، لتستطيع أن تحمل طفلها لمدة عشر دقائق ينهيها السجان بأخذ الطفل من بين ذراعيها بعيدًا عنها. ذلك بمثابة تكرار تجربة الاعتقال من جديد كل شهر، وهو يكسر قلب الأم كل مرة".
تروي سماح جرادات كيف أنها كانت تصاب "بالذهول في كل مرة أرى فيها زميلتي في الزنزانة، الأسيرة والأم لطفلين، إيناس العصافرة، تعود من زيارتها. بدلاً من أن تكون سعيدة برؤية طفليها وحملهما، كانت هادئة وغير متفاعلة وحزينة. كانت تمضي ساعات بمفردها بعد الزيارة دون أن تتحدث إلى أحد. حتى عندما كنا في الساحة، كانت تبقى في الزنزانة، وفي بعض الأحيان كانت تبكي".
"لا يزال جزء منا هناك"
مر مليون فلسطيني بسجون الاحتلال منذ عام 1967، أكثر من 16 ألفا منهم من النساء. منهن الأمهات، والطالبات، والعاملات، وربات البيوت، والقائدات، يختبرن ظروف اعتقال الاحتلال بالمئات كل عام. تجربة تؤكد سلام أبو شرار أن "من مررن بها تركن جزءًا منهن وراء القضبان، حتى بعد الإفراج عنهن"، وتوضح، "الأسيرات ينشئن رابطة خاصة. نصبح مثل الأخوات، وطالما أنه لا يزال لديك أخت هناك، فلا يزال يقبع جزء منك هناك". روابط تصفها سماح جرادات وهي تتذكر يوم الإفراج عنها؛ "شعرت يوم الإفراج عني بشيء مما شعرت به يوم اعتقالي. فلم أرغب في ترك الفتيات الأخريات، عائلتي الثانية، خلفي في السجن. في الواقع، وددت لو أستطيع أن أخرجهن جميعًا معي".