عند قراءة كتاب معذبو الأرض، لفرانز فانون، يمكنك أن تفهم من حديث الرجُل – خاصة في الفصل الأول من الكتاب –الآليات التي يستخدمها المستعمر للسيطرة على الأرض، تلك الآليات التي تخلق ظروفاً اجتماعية واقتصادية تهدف لصناعة مجتمعات غير متجانسة، ومنقسمة، لا سياسيا فقط.
بل اجتماعيا واقتصاديا، على قاعدة فرقّ تَسُد، حيث يصف (فانون) تلك الفروقات بالقول : ” إنَّ مدينة المستَعمِر (المستوطن) مدينة صلبة مبنيّة بالحجر والحديد، مدينة أنوارها ساطعة، وشوارعها معبّدة بالأسفلت، وصناديق القمامة فيها ما تنفك تبلع نفايات ما عرفها الآخرون ولا رأوها يوماً، ولا حلموا بها يوماً. أما مدينة المستعمَر، فهو مكان سيّئ السمعة يسكنه أناس سيّئوا السمعة. فيه يولد الناس أياً كان وكيف كان. وفيه يموت المرء أين كان، وبأي شيء كان. هو عالم بلا فواصل، الناس فيه يتكدّسون فيه بعضهم فوق بعض، والأكواخ تتكدّس فيها بعضها فوق بعض. إن مدينة المستعمَر، مدينة جائعة، جائعة الى الخبر، وإلى اللحم، وإلى الأحذية، وإلى الفحم، وإلى النور. مدينة المستعَمر مدينة جاثية، مدينة راكعة، مدينة متدحرجة في الوحل ” .
وعلى الرغم من أن( فانون) لم يتحدث في كتابه عن تلك الحالة، التي لا يخلق فيها المستعمر الفروقات بينه وبين السكان الأصليين فحسب، بل بين السكان الأصليين أنفسهم، إلا أن فهم الكتاب يمكن أن يمنحك منطلقا لذلك، فقد أسهم احتلال فلسطين عام 1948 -1967 إلى جعل الشعب الفلسطيني مجتمعا يعيش في جُزر منفصلة جغرافيا عن بعضها البعض، يحيط بها الاحتلال من كل جانب، ولا يمكن القول أن هذه الجزر، من الناحية الاجتماعية والاقتصادية تتمتع بسمات اجتماعية واقتصادية واحدة.
ويمكن فهم هذه الفروقات المصطنعة، وتأثيراتها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية على الشعب الفلسطيني من خلال فهم ميكانيزمات الحصار التي يطبقها نظام الفصل العنصري في كل من الضفة الغربية وقطاع غزة، ففي الضفة الغربية يحافظ الاحتلال على منح الفلسطينيين هناك ميزاتٍ اقتصادية بالمقارنة عما هو مسموح للفلسطيني في قطاع غزة، حيث تمنح هذه الميزات: مستوى أقل من الفقر، والبطالة، و قيمة أعلى للأجر اليومي مما هو في قطاع غزة.
حيث تشير البيانات، إلى أن مستوى الفقر في قطاع غزة قد بلغ 85% من إجمالي السكان، في حين لا تتعدى هذه النسبة 15% في الضفة الغربية، كما يبلغ معدل الأجر اليومي بالشيكل في قطاع غزة أقل من 60 شيكل، في حين يبلغ متوسط ذلك في الضفة الغربية 126 شيكل في اليوم الواحد. وقد بلغت نسبة البطالة في قطاع غزة 49% بينما بلغت البطالة في الضفة الغربية 14.8%. وبينما يسمح الاحتلال بتصدير البضائع من الضفة الغربية بشكل مقيّد، وضع نظام الفصل العنصري حد أدنى من السعرات الحرارية التي يتعين أن يتناولها الفلسطيني في قطاع غزة وفقا لسنه وجنسه وأنواع الغذاء الأساسية التي يمكن إدخالها إلى قطاع غزة. إن هذه الإجراءات العنصرية، أقل تشددا في الضفة الغربية بالمقارنة مع قطاع غزة، إن أهم أسباب هذا التفاوت المقصود، أن مستقبل الاستيطان في الضفة الغربية يتمثل في اندماج الكتل الاستيطانية الكبرى، ومن ثم اندماجها مستقبلا مع المدن العربية، وهو ما يتطلب خلق مجتمعات أقل قدرة على المقاومة، وأكثر قدرة على التكيف مع المستعمر عبر منحها مجموعة من التفضيلات الاقتصادية، التي قد تسهل من جعلها مستقبلا في حدود ما يمنح لمثيلتها من تفضيلات اقتصادية للعرب في الداخل المحتل، بالمقارنة مع التجمعات الفلسطينية الأخرى كقطاع غزة، التي لا تنوي إسرائيل على المستوى بعيد الأمد إعادة احتلالها. يقصد نظام الفصل العنصري من خلال هذه الفروقات إلى تعميق الأثر الاجتماعي والثقافي للحصار، وتباين نتاجه من مجتمع لآخر، إن هذه المجتمعات غير المتجانسة أصعب ما يكون أن تنسجم لاحقا، في كيان فلسطيني واحد نتيجة هذا التباين.
إن هذه الفروقات ، لا تشبه مطلقا الفروقات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية التي تكون بين المدينة والريف مثلا في مجتمعات العالم الثالث، والفرق هنا، أن نظام الفصل العنصري، حافظ على قطع أي تواصل جغرافي ، حيث لا يسمح للفلسطينيين في قطاع غزة إلى الانتقال بشكل سلسل، وواسع، إلى الضفة الغربية أو الداخل الفلسطيني أو العكس، إنما يتم النظر إلى كل حالة ترغب بالانتقال على حدة، ووفق شروط أمنية معقدة! الأمر الذي يمنع أي شكل من أشكال التبادل الثقافي والاجتماعي بين أبناء الشعب الواحد. لقد نتج عن ذلك أن فلسطين والتي كانت قبل العام 1948 كانت أرضا واحدة لشعب واحد، ذو هوية وثقافة وطنية واحدة، فإنه الفلسطيني اليوم في قطاع غزة لا يعرف العَكّوب النابلسي، ويجهل ماهيته، وفي الآونة الأخيرة، وبينما نشأ الجدل على مواقع التواصل الاجتماعي حول كون أصل المنسف فلسطينيا أو أردنيا .. كان سكان قطاع غزة، غير متشجعين للانخراط في هذا النقاش، الغريب عنهم. ولا يدرك سكان الضفة الغربية، ماهية السُماقية، أو مذاقها، وهي الأكلة الأكثر شعبية في قطاع غزة، أو حتى النسخة الغزاوية من الكنافة.
لم يسمح هذا الحصار حتى في خلق أجواء مريحة من الُحب بين الذكور والاناث في فلسطين، حيث أن الزواج بين الفلسطينيين من الضفة والقطاع أو الداخل المحتل هو في حدودٍ دُنيا. تجعل من الغرابة القول أن الحب، أعظم وسائل التبادل الاجتماعي والثقافي، والذي لا يعرف حدودا .. قد صنعت له إسرائيل حدودا حقيقية! بل الأنكى من ذلك، فقد شهد العام الجاري محاكمة لفلسطينيين من الداخل المحتل، بتهمة التواصل غير المشروع مع فلسطينيين آخرين من الضفة الغربية.
وفي الشتات، حافظ نظام الفصل العنصري على عدم إثارة قضية اللاجئين أو حق العودة، أو التعاطي مع أي حلول، أو مبادرات إنسانية،، فبعد مرور 73 عام على النكبة، لم يتبقى من الجيل الأول من فلسطينيين النكبة الكثير على قيّد الحياة، في حين أن الجيل الثاني والثالث، مخرط تماما، في هموم المجتمع المستضيف، إن ذوبان الفلسطيني في سوريا ولبنان ليس ذوبانا في الهوية السورية أو اللبنانية، إنما للفلسطيني دوما دوافع تقاوم هذا النوع من الذوبان، إنما هو ذوبان في التحديات التي يواجهها هذا المجتمع المستضيف، وذلك من خلال الانخراط في الحرب الأهلية تارة، أو قضايا المجتمع المستضيف المؤثرة كالبطالة وغلاء المعيشة والسياسات الداخلية. فيجد الفلسطيني نفسه يقاتل أحيانا لأجل البقاء في المجتمع المستضيف .. لا أن يقاتل لمغادرة هذا المجتمع نحو فلسطين. لم يكن هذا الفصل العنصري، نتيجة هامشية، لعملية احتلال فلسطين، بل كانت أمراً مقصوداً، وجزء من نظرية السيطرة الاستعمارية، وهي ممارسات تندرج بشكل واضح تحت تعريف الفصل العنصري، الذي يعرفه نظام روما بأنه أية أفعال غير إنسانية ترتكب في سياق نظام مؤسسي قوامه الاضطهاد المنهجي والسيطرة المنهجية من جانب جماعة عرقية واحدة إزاء أية جماعة أو جماعات عرقية أخرى، وترتكب بنية الإبقاء على ذلك النظام. إن بقاء نظام الفصل العنصري، بوصفه هو أيضا نظام غير متجانس، منبوذ في محيطه العربي، يفتقد للهوية الوطنية الحقيقية، يدفعه أيضا أن يجعل ” الا تجانس ” هو السمة العامة لمحيطه .. كأنه يكذب على نفسه ويقول: أنا لست غارقا في الاثم .. وحدي!