وهبته أمه لدرب الفداء والمقاومة
غزة - خاص قُدس الإخبارية: وحيداً لوالديه ولد صابر إبراهيم سليمان، معفى في الدين والعرف والقانون من أداء فريضة الجهاد أو الخدمة العسكرية، لكن هذا الفتى الذي ألفت يداه منذ نعومتها دك جنود الاحتلال بالحجارة في الانتفاضة الأولى في أزقة وشوارع بلدة جباليا شمال قطاع غزة، وذاق متعة الاشتباك المباشر مع الاحتلال وجنوده منذ سنوات طفولته الأولى، لم يكن ليدّخر جهدا في الالتحاق بدرب المقاومة وجنودها، وما أن أتم الـ 22 ربيعاً من العمر كان قد تحصل على كتاب وقّعته والدته بالدم والفخر، تطلب الإذن من كتائب القسام وقيادتها في شمال قطاع غزة لقبول ولدها مجاهداً في صفوفها، ملتحقا بركب المقاتلين الذين أذاقوا الاحتلال الويلات على طول القطاع وعرضه حتى ولّى مدحوراً مهزوما يجرجر مستوطنيه وجنوده من مستوطنات القطاع البائدة.
تدرج الصبور صابر في مراتب العمل المقاوم، وصولا إلى قيادة سلاح المدفعية في شمال القطاع، ليذيق الاحتلال ومستوطنيه ألوان العذاب بلظى الصواريخ وحمم قذائف الهاون طوال سنوات، مشعلا مستوطنات الغلاف ومدننا المحتلة جحيماً لا يخمد، حتى كان له السبق خلال معركة العصف المأكول عام 2012 بأن يطلق على يديه أول صاروخ فلسطيني نحو القدس المحتلة من طراز مقادمة 75، ليسطر لحظة فارقة في تاريخ الصراع، ويضيئ بارقة أمل فوق العاصمة السليبة، مرسلا لها بتحيات أبنائها على أنغام صفارات الإنذار، وما إن وضعت الحرب أوزارها حتى عاد إلى ميدان الإعداد والاستعداد والتجهيز حتى اشتعلت معركة العصف المأكول لتحطّم جرف العدو الصامد زوراً ليجدد فيها عهد الراجمات إلى حيفا وتل أبيب والقدس.
تصاعدت هجمة الاحتلال على المرابطين في باحات المسجد الأقصى وأهلنا في حي الشيخ جراح، فكان لزاما على المقاومة أن تقول كلمتها، ودكت الأرض بتهديد السادسة من مساء العاشر من أيار وأشهرت سيف القدس في وجه العداة، ومع الساعات الأولى للمعركة ارتقى الشهيد صابر سليمان ونجله محمد بقصف من طائرة استطلاع إسرائيلية ليرتقي شهيداً في سبيل القدس فداء لها راسما بالدم خطوط التحرير القادم.
المُحمّدان والعلي.. فتية سجّروا البحر
محمد حسن أبو سمعان، محمد جمال أبو سمعان، وعلي وليد بريص، فتية عشقوا البحر وعاشوا سنين حياتهم على رمال شاطئه وبين أمواجه، ربابين "الحسكات" التي شقوا بها عُباب البحر فحفظوا تياراته وساعات مده وجزره وتضاريسه كأكف أياديهم، فهم أحفاد المهاجرين من قرية حمامة أهل البحر وحرّاسه منذ القدم، فكانوا على العهد والوعد عشاقاً للبحر ونواة المقاتلين الذين سيحيلون أمواجه نارا على الاحتلال، ويشقون ظلمة قاعه نحو الأرض المحتلة في عمق مواقعه الحصينة، هم من ذات الوحدة التي صنعت الملاحم في "زيكيم" ورفاق درب خالد وبشار وحسن ومحمد الذين راقصوا "الميركافاة" وهزئوا بها وعلقوا عليها عبواتهم الناسفة تذكاراً أبديا.
أصبح الصيادون مقاتلين، وعشقوا البحر ضفادع بشرية يحسب لها العدو ألف حساب، تواصل مع الأيام إعدادها واستعدادها وتدريباتها على شاطئ غزة وفي قلب بحرها، وأعين مقاتليها تترقب يوم الأبرار على سواحل البلاد السليبة، ولحظة الاشتباك التي تشتعل فيها النيران بقطع العدو البحرية كالنار في الحطب الجاف.
عقد الاحتلال صفقات السلاح وعزز ترسانته البحرية بالبارجة الأحدث في العالم "ساعر 6" المزودة بأنظمة دفاعية وهجومية ومضادات للصواريخ، وشيد الخطوط الدفاعية والجدران البحرية وزرع أجهزة الرصد والمراقبة والرشاشات الأوتوماتيكية، مراهناً عليها في حماية حقول غازنا المنهوب وشواطئ الأرض المحتلة، فما أغنت عنه شيئا من فتية مقاتلين آمنوا بربهم وزادهم هدى، هذه سطور من حياة المحمّدان والعلي.
محمد جمال أبو سمعان، أطلق عليه رفاقه لقب "الفخر" لعزة نفسه وسمو همته ورباطة جأشه، دينامو لا يهدأ على حداثة التحاقه بصفوف القسام منذ بضع سنوات مضت، حاضر البصمة والتأثير في العمل المسجدي والحركي والحكومي، طيب القلب بسيط هيّن، كتوم لا يفصح عن طبيعة دوره ومهامه، بكر والده من الأولاد، وعريس لم يمض على زفافه شهر ونصف، حتى صُدم أقرب الناس إليه بطبيعة دوره القتالي والمهام الجسام التي كان يخفيها وراء ابتسامته وصمته.
أما محمد حسن أبو سمعان الملقب بـ "دهمان"، فكان كتلة من الصمت المطبق والغموض الذي يخفي خلفه أسرار تخصصه وطبيعة عمله في سلاح الكوماندوز البحري، كان قليل الحركة، كثير الغياب، منهمكاً في سباق مع الزمن ضمن معركة الإعداد، بسيط الهيئة متواضع النفس، لا يعلم أقرب الناس إليه طبيعة المهام التي يحملها على عاتقه، ولعل الأيام تكشف فصولاً من حياة وأدوار هذا الفتى الذي سابق السنين والأيام، وبذل الروح ختاماً في هذا الدرب المقدس.
وثالثهم كان علي وليد بريص، صلب الشخصية قوي القلب شديد البأس، الشاب الفتى الضاحك ذو الابتسامة التي لا تغيب، وهو الذي أقسم ألا يعود من أي حرب قادمة إلا شهيداً ممزق الأشلاء، فكانت استجابة الدعاء على رمل الشاطئ الذي تربى وترعرع بين أمواجه، وارتقى مع إخوانه في الضربة الغادرة، وقد تحول جسده إلى أشلاء دفنت في عدة قبور.
محمود كمال كلاب.. ابن أنفاق الجحيم
اسم حفظه باطن الأرض جيداً، وكأن للمحمود وعد وعهد مع الأنفاق أن يحيا ويقاتل ويتصدى ويرتقي فيها، محمد كمال كُلّاب قائد ميداني في وحدة النخبة بكتائب الشهيد عز الدين القسام، وأحد مقاتليها الصناديد في خانيونس التي أوجعت العدو مراراً وتكراراً وتحطمت على أعتابها أرتال وحشودات، وهربت منها "سيريت متكال" تجرجر قتلاها وجرحاها تحت ستار القصف والنار.
لم تكن صورة الشهيد محمود وهو يحمل بندقية "تافور" التي لفتت انتباه الاحتلال وإعلامه لتذكرّه بصنيع الأنفاق ونخبتها في موقع ناحل عوز شرق غزة خلال معركة العصف المأكول عام 2014، المعركة التي سطّر فيها محمود ورفاقه ملاحم في شرق خانيونس أمام العدو وفي وجهه وخلف خطوطه، فكانت جحيماً على سلاح المدرعات حول الدبابات والجرافات إلى عصف مأكول حقاً وصدقاً، وفي تلك المعركة كانت الصولة والجولة والحكاية التي لم تنسها غزة، كيف تجلّت معية الله مع كوكبة من مقاتلي النخبة، بعد أن انقطع الاتصال بهم لقرابة الشهر إثر القصف الجنوني الذي شنه العدو في كل مكان شرق خانيونس بعد أن تلقى ضربات موجعة خلف خطوطه وبين صفوف حشوده وجنوده، يومها حوصر محمود و22 من رفاقه في نفق على عمق 25 متراً تحت الأرض بمنطقة القرارة، وانقطع الاتصال بينهم وبين قيادتهم لـ 20 يوماً متتالية، ليُسجّلوا في عداد المفقودين، ولم يتوقع أحد أن يُعثر عليهم أحياء بعد هذه المدة الطويلة.
تجلت معية الله للمقاتلين، وبعد 20 يوماً أنارت الشمس مكمنهم ووصلت إليهم فرق الإنقاذ التي كانت تعتقد أنها في مهمة لانتشال جثامينهم، فخرجوا من باطن الأرض مهللين مكبرين لم يمسهم سوء بفضل الله.
في معركة سيف القدس، أعد محمود مجموعته النخبوية التي تولى قيادتها الميدانية، وكان الموعد مجددا في أنفاق الجحيم شرق خانيونس استعداداً لقرارات قيادة المقاومة وتطورات الأحداث في الميدان، لكن الموعد هذه المرة كان شهادةً واصطفاء، بعد أن طال قصف الاحتلال الجنوني بعشرات الغارات نفق المجموعة ليرتقي أبطالها شهداء، وكان موعد محمود كُلّاب هذه المرة مع الأنفاق شهادة وخاتمة مشرفة لمسير طويل من الإعداد والجهاد وتحطيم أكذوبة الجيش الذي لا يقهر.