كشفت حلقة البرنامج التحقيقي الممتاز "ما خفي أعظم"، التي بثتها قناة الجزيرة الأحد الماضي، عن معلومات جديدة بخصوص أسر الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط في العام 2006، وظروف أسره، وحيثيات المفاوضات الطويلة والشاقّة لإبرام صفقة تبادل أسرى مشرّفة ومُرْضِية للمقاومة الفلسطينية؛ تمّت بالفعل في العام 2011.
كما كشفت الحلقة عن معطيات، ما تزال مبهمة، حول ما تملكه حماس الآن من جنود إسرائيليين أسرى لديها، وذلك ببثّ تسجيل صوتي لأحد هؤلاء الجنود، دون بيان هوية الجندي، وتلميحات واضحة للرجل الثاني في كتائب القسام، مروان عيسى، عن امتلاك حركته أوراق تفاوض قويّة في ملف الأسرى، من شأنها أن تفجّر مفاجآت.
لم تكن القدرات العسكرية لحركة حماس، وللمقاومة الفلسطينية عموما، في العام 2006 كما هي الآن. كانت الحركة للتوّ خارجة من انتفاضة الأقصى، وتحاول الاستثمار الميداني في الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزّة في العام 2006، إلا أنّ الأهم من ذلك كلّه، هو أن التفاتتها السياسيّة المفصليّة، بالمشاركة في الانتخابات التشريعية الفلسطينية وكسبها تلك الانتخابات وتشكيلها الحكومة الفلسطينية إثر ذلك، لم يكن على حساب الوظيفة الأصلية للحركة، وهي الوظيفة التي تتسمّى بها "حركة المقاومة".
أسر الجندي شاليط بعملية مثابرة، محكمة التخطيط، وملحمية التنفيذ بثت الجزيرة لأوّل مرّة مشاهد من مراحلها المتعددة، كان تأكيدا على الخطّ المقاوم للحركة، وكشفا عن إرادة المراكمة على منجزات انتفاضة الأقصى، وإعلانا عن الرؤية لموقع قطاع غزّة من المشروع الوطني العامّ. وقد دفعت حماس عموما، في الضفّة وغزّة، ثمنا باهظا جراء ذلك، باعتقال جميع نواب الحركة ووزرائها في الضفّة الغربية، وإحكام الحصار على قطاع غزّة، وإدخاله في حروب ومواجهات متتالية بهدف استخلاص شاليط من الحركة.
لم يكن هذا الإصرار على تكريس وظيفة المقاومة في بنية الحركة ومهمتها، على حساب المكاسب السياسية الجزئية في إطار سلطة مسقوفة بالاحتلال، مجرد نزعة عسكرتارية لدى مقاتلي القسام وقادتهم، بل كان ناجما عن رؤية سياسية من بعدين، لا تكتفي بتحرير قطاع غزّة من الوجود الإسرائيلي الفيزيائي المباشر.
البعد الأوّل، أنّه لو كان لغزّة قضيّة خاصّة بها فإنّها لا تحل بالانسحاب منها، بل بعودة سكانها إلى أراضيهم التي هجّروا منها في العام 1948. فغزّة في حقيقة حالها هي معسكر لاجئين كبير، وبهذا فإنّ المقاومة بهذا البعد تموضع نفسها في إطار تحرري متصل بجذور القضية وأصالتها. وأمّا البعد الثاني، فهو أنّ مراكمة هذه القدرة مؤسس على لحظة انتفاضة الأقصى التي دفعت فيها الضفّة الغربية صفّها وكادرها الأول بالكامل في ملحمتها المسلّحة، في معركة واحدة كتفا بكتف مع غزّة. هذا الاتصال والتواصل،كان له بعد ثالث، بوجود كادر عسكري عتيق مخضرم، متصل بلحظات التأسيس الأولى لهذا العمل.
صحيح أن ظروف الحصار، وتورّط الحركة بإدارة السكان، وفّر للاحتلال فرصة محاولة تكبيل سلاح المقاومة وتحويله إلى عبء على السكان داخل غزّة، وإفقاده طابعه المشاغل، وتقزيمه في إطار ظرف غزّيّ خاصّ، إلا أنّ المقاومة ظلّت تسعى، بعنادها وندّيتها، والأهمّ إيمانها بالمشروع، إلى إحباط هذه الرؤية الإسرائيلية. وفي هذا الإطار كانت عملية الاستعداد الحثيث، والتطوير اللحوح، والاستثمار الكفؤ في المقدّرات المادية المحدودة والبشرية، تكريسا لوظيفة المقاومة الفاعلة، القادرة بجولات متباعدة ومدروسة، على إعادة تفعيل المقاومة فعليّا، بما يكسر معادلة الاحتلال، وبما يجدد للقضيّة الفلسطينية حضورها ومركزيتها، وبما يعيد ترتيب الأولويات الفلسطينية، ويكبح التردّي الناجم عن مسار التسوية على المستوى النضالي والاجتماعي.
تعاني المقاومة الفلسطينية المسلّحة، التي انحصرت لأسباب تاريخية وسياسية في غزّة، من جملة معيقات مركبة، من الحصار، وانكشاف الظهر، وانعدام الظهير المباشر، ونتائج الانقسام، والطبيعة الطبوغرافية الخاصّة بالقطاع، ومحدودية المساحة بما يعدمها العمق الاستراتيجي، والتفوق الإسرائيلي من حيث كل ما تعانيه المقاومة. لكنّها بالرغم من ذلك، تمكّنت من التجاوز النسبي لتلك المعيقات، لتكرس نفسها أولا حقيقة تكاد تكون إمكانية إزالتها مستحيلة، وهذه أهم نقطة في تحطيم ركيزة من ركائز الوجود الإسرائيلي، أي الإزالة المسلّحة للتهديدات العسكرية المناوئة للكيان، أو تحييدها بأدوات غير عسكرية. وهذا كلّه فشل مع حالة قطاع غزّة، حتى باتت المواجهة معها معضلة، والتهدئة معها معضلة، وذلك لأنّ المقاومة فيها مهمومة بالتطوير والمراكمة بما تنوي إظهاره لاحقا في سياق وظيفتها الأصلية.
يمكن القول إنّ هذه المقاومة، أكثر مقاومة ظُلمت من حيث التقييم، فمن ناحية الفاعلية والاشتباك المتجدد، ظلّت المقاومة في غزّة وحدها التي في حالة اشتباك متجدّد مع الاحتلال، ومن حيث ظروفها الخاصّة تكاد تكون قدرتها على التطوير والمراكمة ثم إيجاد الحلول الإبداعية لمناورة التفوق الإسرائيلي الهائل.. تكاد تكون مستحيلة، لكنها فعلتها. ومن حيث المشروع السياسي، ظُلمت هذه المقاومة، التي صنّفها خصومها الأيديولوجيون والسياسيون في صورة "إمارة دينية رجعيّة" منعزلة عن الهمّ الوطني العامّ.. لقد عجز هؤلاء جميعا عن أن يروا فيها الإمكان الفلسطيني، وهو أهم ما يمكن الحديث عنه.
المقاومة التي تربط نفسها بحاضنتها التي هي نتاج النكبة عام 1948، وتعيد تأسيس نفسها على لحظات الكفاح الفلسطيني الجامع، والتي تجعل قضية الأسرى أولويتها المزمنة، بما يقدم الإفراج عن أسرى الضفّة والقدس والـ48 والعرب، على ظروف بيئتها الاجتماعية اللصيقة، أو على قدرة تنظيمها السياسي على الإدارة.. لا بدّ وأن تكون مقاومة وطنية عامة، تصلح لأن تكون مشروعا جامعا، بغض النظر عن المواقف الانطباعية المبالغ فيها تجاهها، من أوساط ثقافية أو أيديولوجية تعاني قدرا من الانفصال عن ثقافة الشعب.
هذه المقاومة أثبتت جدّيتها وعنادها وكفاءتها وإيمانها بالمشروع، بقفزاتها العسكرية التي ظلّت تظهر في المواجهات المتجدّدة. وما كشفه "ما خفي أعظم" بعض المخفي الباطن من كفاءة هذه المقاومة وندّيّتها، وتخلّصها من الهزيمة النفسية إزاء الصلف الإسرائيلي وتفوقه العسكري والاستخباراتي، بما بدا أمرا محيرا ومتعبا للوسطاء بينها وبين العدوّ الإسرائيلي. فهي أكثر صبرا من الاحتلال، وتعرف جيدا أنه يتألم وأنها قادرة على إيلامه، وتؤمن بأن مشروعها فوق المجاملات السياسية، وأن وظيفتها تقتضي الصلابة في وجه التهديد والإغراء. إنه التجسيد الحرفي لقوله تعالى: "وَلا تَهِنوا فِي ابتِغاءِ القَومِ إِن تَكونوا تَألَمونَ فَإِنَّهُم يَألَمونَ كَما تَألَمونَ وَتَرجونَ مِنَ اللَّهِ ما لا يَرجونَ وَكانَ اللَّهُ عَليماً حَكيماً".
مقاومة كهذه جديرة بإعادة الاكتشاف والفهم والالتفاف والتقدير.
المصدر: عربي 21