أحدثت انتفاضة القدس واستعادة الوعي ووحدة الشعب وتجلّي هويته الوطنية تحولًا مهمًا فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، إذ عادت إلى صدارة الأحداث والاهتمام العالمي بوصفها قضية تحرر وطني، يحمل لواءها شعبٌ مؤمنٌ بعدالتها، ويثق بقدرته على الانتصار مهما طال الزمن وغلت التضحيات.
يعود الجذر الرئيسي وراء هذا الانتصار إلى وحدة نضال ومقاومة الشعب الفلسطيني في جميع أماكن تواجده، رغم الظروف الخاصة بكل تجمع، واستخدام أشكال النضال التي تناسبه ضد الاستعمار الاستيطاني العنصري الاحتلالي الإحلالي.
إن القدس، والأقصى تحديدًا، المفجر الرئيسي للثورة، ولكنها مظهر واحد من مظاهر الصراع لا أكثر، فالصراع وطني تحرري له أبعاد متعددة، منها البعد الديني الذي يعدّ أساسيًا من دون الوقوع في التعامل معه كصراع ديني.
كالعادة، المقاومة توحّد الشعب، والمفاوضات تفرّق، والخلاف يظهر على السلطة والقيادة والقرار والتمثيل والحصص والمكاسب الفئوية، وعلى كيفية استثمار المقاومة، بين من يتسرع في الاستثمار، ومن لا يريد أو لا يتقن أي استثمار، ومن ينتظر نضج الثمار.
وفي العادة، كانت مقاومة الشعب باسلة وشجاعة ومنتصرة، وقدمت تضحيات غالية، بينما الحصاد السياسي يأتي متواضعًا أو في الاتجاه المعاكس تمامًا؛ نظرًا لحجم المؤامرة والتحديات والمخاطر وقوة وتحالفات العدو وكونه كيانًا وظيفيًا يخدم مشروعًا استعماريًا، هذا من جهة، وبسبب أخطاء وخطايا القيادة ومختلف أطراف الحركة الوطنية، وعدم التجديد والتغيير، ومن دون الاستفادة من التجارب السابقة، من جهة أخرى.
فعلى سبيل المثال لا الحصر، كانت الانتفاضة الشعبية الأولى عظيمة، وألهمت العالم كله، ولكنها انتهت لأسباب عدة، منها السعي لاستثمارها قبل الأوان، وتغليب الاعتراف بمنظمة التحرير على الاعتراف بالحقوق الوطنية، إلى توقيع اتفاق أوسلو، الذي أوصلنا إلى الكارثة التي نحن فيها، مقابل تأسيس سلطة حكم ذاتي مقيدة بأغلال ثقيلة وعودة مئات الآلاف من الفلسطينيين إلى وطنهم.
تم عمليًا في أوسلو التخلي عن القضية بأبعادها المتعددة، وعن الرواية التاريخية الفلسطينية تحديدًا من خلال الاعتراف بإسرائيل ونبذ المقاومة والتبعية الاقتصادية والتنسيق الأمني، وفصل القضية عن الأرض والشعب وتقزيمها، وفصل كل واحدة منها إلى أجزاء جريًا وراء وهم الحصول على دولة وكانت من دون حرية ولا استقلال ولا سيادة.
وكانت الانتفاضة الثانية عظيمة هي الأخرى، ولكنها غُدِرت وظُلِمت من خلال وصفها بأنها دمرتنا رغم أنها أوقفت إسرائيل على رؤوس أصابعها، ودفعت إدارة جورج بوش الابن إلى القبول المبدئي بالدولة الفلسطينية، وقوات الاحتلال إلى "الانسحاب" من قطاع غزة، ولكنها انتهت جراء السياسة إلى تجديد شرعية السلطة والتزامات أوسلو رغم تخلي الحكومة الإسرائيلية عنه، وضمن سقف سياسي منخفض جدًا عنوانه تمديد المرحلة الانتقالية والحكم الذاتي حتى إشعار آخر، وضمن التزام الفلسطينيين بالأمن الإسرائيلي كمرجعية عليا للمسيرة السياسية كجسر للحصول على أهدافهم، ومن ثم انتهت لاحقًا بـ"الانقلاب" والانقسام، فيما العملية السياسية وصلت إلى طريق مسدود، وتعمّق الاحتلال، وتوسّع الاستعمار الاستيطاني، وتهمّشت القضية، واستمرّ الانقسام.
وحتى لا تؤدي الانتفاضة الثالثة التي تأخذ شكل الموجات - إذ بدأت الموجة الأولى منذ سنوات ونشهد موجاتها الواحدة إثر الأخرى - إلى مصير سابقاتها، يجب عدم المسارعة إلى النزول عن الجبل للحصول على السلطة والمكاسب والقرار والتمثيل، خصوصًا من خلال التركيز على الدعوة لتغيير القيادة سلمًا أم عنوة، الأمر الذي سيدخل الفلسطينيين في نفق انقسام أعمق وأخطر بدلًا من توظيف الانتصار والبناء عليه لإنجاز وحدة وطنية حقيقية، وشراكة كاملة تنهي التفرد والانفراد والتزامات أوسلو، وتؤدي إلى قيام مؤسسة فلسطينية فاعلة في السلطة والمنظمة على أساس إعطاء الأولوية لاستمرارية المقاومة والانتفاضة التي لم تحقق أهدافها بعد. فلم نحرر القدس والضفة، ولم نستكمل تحرير غزة، ولم نحقق حق العودة، ولا أسقطنا التمييز العنصري بحق شعبنا في الداخل.
من حق أي شخص أو مجموعة أن تدعو إلى استقالة أو إقالة الرئيس (مع أنّ الإقالة حصرًا من حق المؤسسات التي يقودها)، أو إلى تغيير القيادة واستبدالها، ولكن من الحكمة التفكير متى وكيف يمكن أن يحدث ذلك، وما الأجدى في هذه اللحظة الحساسة وما البديل؟
إن الدعوة لاستبدال قيادة بقيادة ومختلف دعوات الإقصاء والتكفير والتخوين من هذا الطرف أو ذاك واستبدال المنظمة بمنظمة أخرى، لن تؤدي لتحقيق شيء مما سبق، بل ستزيد حدة الاستقطاب، وتعمّق الانقسام وتسرّع تحوله إلى انفصال.
التغيير سنة الحياة، ولا مهرب منه، ويتحقق عبر التاريخ من خلال الثورات أو الانقلابات أو الانتخابات، وليس عبر العرائض وتوصيات وأوراق مراكز الأبحاث، فهذه تساعد على التغيير، ولكهنا لا تقود إلى التغيير الذي يبنى على الكفاح والحقائق على الأرض وتغيير موازين القوى.
أما التغيير في التاريخ الفلسطيني المعاصر فجرى من خلال هزيمة قيادة الحركة الوطنية وإسقاطها بعد النكبة، ما فتح المجال لنهوض الثورة الفلسطينية المعاصرة بولادة حركة فتح ومن ثم قيادتها لمنظمة التحرير.
لقد حازت الثورة حينها على تأييد غالبية كبيرة من الشعب الفلسطيني، خصوصًا بعد انطلاقتها الثانية بعد هزيمة حزيران العام 1967 وانتصارها في الكرامة في العام 1968، وما مهد وساعد على ذلك تغيير موقف الأنظمة العربية من الثورة، خصوصًا نظام جمال عبد الناصر، التي وصفت في البداية بأنها طابور خامس تسعى لتوريط الأنظمة في حرب قبل أوانها إلى "وجدت لتبقى، وهي أنبل ظاهرة عرفها التاريخ" كما وصفها عبد الناصر.
في هذا السياق، هناك شبه بين معركة سيف القدس ومعركة الكرامة التي فتحت الطريق لقيادة ياسر عرفات وحركة فتح لمنظمة التحرير بعد استقالة أحمد الشقيري واستلام يحيى حمودة لرئاستها لفترة قصيرة، إلا أن هناك اختلافًا كبيرًا بين "فتح" الحركة الوطنية الواسعة التعددية التي تشبه الشعب الفلسطيني المقبولة من مختلف المحاور العربية ومعظم دول العالم، وبين حركة حماس العقائدية التي لم تستكمل توطينها فلسطينيًا ولا استقلالها عن جماعة الإخوان المسلمين، التي تمر بمرحلة هبوط بعد هزيمة الربيع العربي الإسلامي، إضافة إلى أنه لدينا الآن سلطتين لكل منهما بنية كاملة وأجهزة أمنية، وبالتالي فإن عملية التغيير معقدة وليست بالسهولة التي يعتقدها البعض.
لولا البيئة العربية وانقسام العالم إلى معسكرين: واحد اشتراكي بزعامة الاتحاد السوفييتي انحاز لدعم الثورة الفلسطينية، والثاني رأسمالي واصل دعمه لإسرائيل، لما استطاعت الثورة بزعامة الرئيس الشهيد ياسر عرفات أن تقود الشعب الفلسطيني.
يمكن القول بثقة لولا هزيمة الأنظمة العربية وحاجتها إلى دعم الثورة الفلسطينية لستر عورتها، خصوصًا بعد الاندفاع الجماهيري الفلسطيني والعربي التلقائي لدعمها، لما حققت "فتح" المكانة التي حققتها كقيادة لمنظمة التحرير، وعندما وقفت الأنظمة على أقدامها بدأت محاولات تقزيم الثورة واحتوائها، عربيًا ودوليًا، خصوصًا بعد حرب تشرين/أكتوبر 1973 وانطلاق قطار التسوية اللعين.
ما تواجهه "حماس" وقوى المقاومة – الآن - في ظل الواقع العربي والإقليمي والدولي، حتى من معظم حلفائها، مختلف عما كان بعد معركة الكرامة، وهو جهود حثيثة منذ اللحظة الأولى لسكوت صواريخ سيف القدس لاحتواء الحركة وترويضها، وتقوية السلطة في مواجهتها إذا لم توافق على الانضواء في السلطة بشروط لا ترضى عنها، والتلويح لها في سبيل تحقيق هذا الغرض بالجزرة والعصا؛ جزرة الاعتراف بها، وعصا مقاطعتها والحرب عليها، وهذا يفترض التركيز على مصادر القوة الفلسطينية وليس الاستقواء أو الخضوع للمحاور الخارجية.
نعم، القيادة الفلسطينية فقدت الشرعية عندما فشل برنامجها ولم تغيره، وبعدما أجّلت الانتخابات بقرار انفرادي، ومن دون توافق وطني، وحين تخلت عن واجبها بقيادة الشعب الثائر في القدس منذ بداية رمضان. ويتحمل الرئيس محمود عباس ضمن القيادة مسؤولية خاصة عما يحدث، كونه حاكمًا انفراديًا يجمع كل السلطات والصلاحيات في يديه بعد تعطيل وتجويف مؤسسات "فتح" والسلطة والمنظمة.
نعم، نحن بحاجة إلى تغيير عميق في السلطة والمنظمة والنظام السياسي الفلسطيني، تغيير يشمل السياسات والمسار وأساليب العمل والأشخاص، على أن يكون السبيل لتحقيق ذلك من خلال اعتماد أساليب ديمقراطية سياسية والشراكة وليس إقصاء طرف لطرف، وعبر صندوق الاقتراع، أو قيام المؤسسة من تلقاء نفسها بالتغيير، أو نتيجة تبلور إرادة شعبية وسياسية تعبّر عن أغلبية كاسحة قادرة على إجبارها على القيام بالتغيير أو التنحي وترك الفرصة لقيادة جديدة قادرة على تحقيق ما لم تتمكن القيادة الحالية من تحقيقه.
أفضل ما يمكن أن يحصل، وهي نصيحة خالصة أقدمها إلى الرئيس، أن يبادر بنفسه، ويقود عملية انتقال قيادي وسياسي وتغيير في "فتح" والسلطة والمنظمة لضمان سلاستها وسلميتها. أما الانشغال بتغيير الرئيس والقيادة عبر الدعوة إلى الإقالة أو الإطاحة بعيدًا أو على حساب مواصلة المقاومة والانتفاضة ومن دون ربطها بإجراء انتخابات أو الوفاق الوطني، أو من دون اندلاع ثورة شاملة تفرض التغيير؛ فسيقود إلى انقلاب وتناحر واقتتال داخلي وتدمير ذاتي، وهو أقصر طريق للفوضى والفلتان الأمني وتعددية السلطات.
هناك طريق وطني وديمقراطي للتغيير من خلال استمرار المقاومة والانتفاضة ضد الاحتلال أولًا، وتشكيل جبهة وطنية عريضة تضم كل المؤمنين بضرورة التغيير ثانيًا؛ تطرح مستلزمات التغيير، وتدعو الجميع بما في ذلك حركة فتح لتكون جزءًا أساسيًا على أساس وطني واضح وصلب.
يمكن أن يبدأ التغيير بمرحلة انتقالية يتم فيها تشكيل قيادة مؤقتة تمثل القيادات القديمة وقيادات جديدة من مختلف التجمعات، كما تمثل فيها المرأة والشباب الذين أبدعوا بالنضالات الأخيرة، كخطوة على طريق تغيير السلطة وإنهاء الانقسام وتوحيد المؤسسات والتحضير لانتخابات على كل المستويات، وفي كل القطاعات، وإعادة بناء مؤسسات المنظمة من أسفل إلى أعلى.
لا يمكن إقصاء "فتح" واستبدالها بحماس، ولا لإقصاء "حماس" أو منحها دورًا شكليًا ثانويًا في السلطة والمنظمة، بل مطلوب شراكة حقيقية كاملة تضم مختلف الأطياف، كل حسب وزنه، ولا يمكن الاستغناء عن أحد كون المخاطر جسيمة، على أساس رؤية شاملة، وإستراتيجية واحدة، وبرنامج نضالي قادر على توحيد الشعب والقوى والمؤسسات وإحراز النصر.
إن شعبنا يستحق النصر وقادر على تحقيقه لو وجد القيادة الجماعية الواعية والمخلصة التي تعرف ما يمكن تحقيقه في كل مرحلة، من دون التخلي عن الأهداف والأحلام الكبيرة.