ماذا بعد ؟ سؤال يلح في طرح نفسه على المهتمين والمتابعين للشأن الفلسطيني بعد أن وضعت معركة ” سيف القدس ” أوزارها وانقشعت عن ( هزيمة ) للعدو تمثلت في عدم قدرته على تحقيق أهدافه من الحملة الجوية التي شنها على غزة، وقد عددنا أسباب عدم قدرة العدو على جني ما أراد من ثمار ، مرجعين السبب في ذلك إلى أنه ــ العدو ــ لم يحدد أهدافه بشكل دقيق قبل أخذه لقرار المعركة، كما أنه لم يُعرّف النصر تعريفاً دقيقاً ، الأمر الذي جعله يدخل في حلقة نار مفرغة استمرت أحد عشر يوماً ، لم يجنِ منها سوى الخيبة والفشل وتحطم الصورة التي بناها رئيس هيئة الأركان الجنرال كوخافي أو الفيلسوف كما يطلق عليه في الوسط السياسي والعسكري المعادي ، تلك الصورة التي حرص على أن يرسمها لقواته في ذهن أعدائه من أنها تجاوزت كل عقبات الإعداد والاستعداد ورفع الجاهزية ، وأنها باتت قادرة على شن معركتين في آنٍ واحد وحسمهما في أسرع وقت وبأقل الخسائر ! كما يتداعى هذا السؤال عندما نتحدث عن النصر الذي حققته المقاومة على عدوها بمنعه من تحقيق أهدافه التي أعلن عنها ، وقد قلنا أن العلّة في هذا النصر ترجع إلى جملة من الأسباب ، منها وعلى رأسها : معية الله التي كانت وما زالت ونسأل الله أن تبقى تحف المجاهدين في غزة وباقي مناطق فلسطين ، كما أن عدالة القضية وتماسك القيادة وبساطة الأهداف وإرادة المقاومة والحاضنة الشعبية كانت من الأسباب التي ساعدت في نصر المقاومة وتحقيقها لأهدافها من تلك المعركة . أمام هذه التوصيف نعود لنطرح ذاك السؤال الملح ، ماذا بعد ؟ وكيف يمكن أن يتم استثمار هذا النصر الذي تحقق والإنجاز الذي أُنجز ، فاستثمار النصر الذي يأتي مباشرة بعد الفوز وتحقيق الأهداف ؛ قد يكون بمستوى أهمية الأهداف المنجزة إن لم يكن في بعض المواقف أهم من الأهداف ذاتها ، كون ما يمكن أن ينجز ويتحقق من أهداف أثناء عملية استثمار النصر ؛ أكلافه اقل بكثير مما لو أردنا تحقيق أهداف في غير هذا الموقف ، الأمر ــ استثمار النصر والإجابة على سؤال ماذا بعد ؟ ــ الذي سيكون موضوع هذه المقالة ومحورها الرئيسي ، لتكتمل أثافي قِدرُ مقالات “معركة القدس ” التي كتبتها فيها مقالين سابقين ـــ ” سيف القدس … لماذا فشلت (إسرائيل ) ، ومقالة ” سيف القدس لماذا انتصرت المقاومة ” . وحيث أننا في ظلال معركة ما زال نقع غبارها ثائر ولم تضع أوزارها بالكامل ، فالجهد السياسي الذي يعقب كل معركة ميدانية ليستثمر إنجازاتها وما بذل فيها من تضحيات ؛ لم يُرَ أثره بعد ، وحيث أن استثمار النصر في هذه المعركة قد تكون له أوجه عديدة ومجالات شتى ، إلا أننا سنتحدث من وحي الحروب والمعارك الميدانية وكيف تخاض وعبر أي مراحل وصولاً إلى مرحلة استثمار النصر الميداني فيها ، لتثبِّت واقعاً ميدانياً جغرافياً يُمكّن القادة من الوثوب وثبة ميدانية أخرى نحو التحرير واستكمال النصر النهائي على عدوهم ، لذلك سنتطرق إلى الهجوم في العمل الميداني وكيف ينتقل من مرحلة إلى أخرى ، مسقطين تلك المواقف الميدانية على ما نحن فيه من واقع ، علّنا نخلص وبما يسمح به الموقف والوسيلة ــ مقال علني ـ إلى فهم يشكل قاعدة إنطلاق لاستثمار النصر في معركة “سيف القدس ” لنحقق إنجازات حقيقية في مسار تحرير الأرض كل الأرض .
إن العمل التعبوي الهجومي يمر في خمس مراحل ، لكل مرحلة منها أدواتها وقدراتها وتكتيكاتها التعبوية والأهداف المراد الوصول لها عند انتهاء كل مرحلة من المراحل ، التي يلي بعضها بعضاً ، ويسلم أحدها الراية للآخر ، هذه المراحل هي عبارة عن :
التقدم لتحقيق التّماس مع العدو : إن أول مرحلة من مراحل ــ تسمى في العمل العسكري أنواع العمليات الهجومية ولكننا سنصطلح في هذه المقالة على تسميتها مرحلة ـ العمل الهجومي هي تحقيق التماس مع العدو ، فكيف تشتبك مع عدوٍ أنت لست على تماسٍ معه ولا تعرف كنهه وحجمه الكلي وطبيعة انتشاره وتموضع قواته ، لذلك تسعى القطع العسكرية ابتداءً لتحقيق هذا التماس مع العدو ، فتراه وترقبه وتحصي عليه أنفاسه ، تستقي المعلومات عن قدراته من خلال رصد تحركاته ، تحاول فهم مناورته من خلال ما يقوم به عمليات نقل وتموضع لقطعاته ، ولا تحتك به ولا تثير غضبه وتستجر رد فعله ، إنها مرحلة كمون ،الهدف منها الفهم . لذلك إن كنا نريد أن نستثمر النصر الذي حصل في غزة في مناطقنا المحتلة في الثمانية والاربعين والضفة الغربية؛ علينا أن نحقق التماس مع هذا المحتل ، الأمر يحصل كل يوم عبر المرور من نقاط سيطرته وحواجزه والاستقرار قرب مغتصباته ومنشآته ، وتردد بعضنا على دوائره ومقراته ، وانسياح أهلنا في مناطق الثمانية والأربعين وانخراطهم في كل جزئية من جزئيات هذا العدو ، وهنا يأتي دور القائد الذي يريد أن يستثمر النصر في كيفية تحول هذا التماس العفوي غير الموجه إلى تماسٍ مقصودٍ حقيقي غير مستثير ولا مثير ، الهدف منه الفهم والمزيد من الفهم
.الاستطلاع القتالي: تلي مرحلة تحقيق التماس مع العدو، مرحلة الاستطلاع القتالي الذي يهدف إلى توثيق وتأكيد ما تم جمعه من معلومات والخلوص له من تقديرات في المرحلة الأولى من مراحل العمل الهجومي، عبر استثارة العدو دون الدخول معه في معارك حاسمة، استثارة الهدف منها معرفة ردة فعله على أية حركة أو إجراء نقوم به ضده، استثارة لمعرفة سلوك باقي المنظومة الأمنية والعسكرية التابعة له؛ كيف تتصرف في حال التعرض لهذا العدو ؟ متى تصل ومن أي طريق ووفق أي جداول زمنية ؟ نصطنع اشتباكاً هنا واحتكاكاً هناك، لا بقصد حسم معركة أو قتل جندي ــ وإن كان يمكن أن نَقتل ونُقتل ــ في هذه المرحلة وإنما لاختبار معلومة وتثبيت تقدير زيادة فهم ورفع كفاءة وكسر حاجز خوف ومهابة من جندي.
وهنا أيضاً نحن مارسنا ونمارس هذا الفعل كل يوم، وقد شاهدنا تجلياته في معركة ”سيف القدس” فقد قام الشباب الثائر في طول الضفة الغربية وعرضها، ومناطق الثمانية والأربعين كلها بمثل هذه الأعمال، ولكنها للأسف لم تكن موجهة ضمن سياق عمل منظم معروف الأهداف محدد المقاصد، لذلك جني محصول معرفي من هذا العمل لن يكون مثمراً، ما لم يكن هناك مجموعة قيادة توجه وتحرك مثل هذه الإجراءات، لتجني منها أفضل النتائج بأقل الخسائر، تحضيراً للمرحلة التالية من العمليات الهجومية القادمة لا محالة.
الهجوم المنسق: ثم نصل بعد ذلك إلى أهم مرحلة من مراحل العمليات الهجومية ، ألا وهي مرحلة الهجوم المنسق ، فبعد أن حقق المجاهدون والمقاومون التماس مع العدو فجمعوا عنه ما يزيد في فهمه وتوقع سلوكه، ثم أخضعوا ما جمعوا لامتحان الميدان، فاحتكوا مع العدو في عمليات مناوشةٍ غير حاسمة عبر الاستطلاع بالقوة وبالنار والأحجار، فشخصوا مراكز ثقله وفهموا طبيعة عمله وردة فعله؛ يأتي دور الهجوم المنسق على مراكز الثقل تلك ، وعلى الأصول المادية والبشرية التي تشكل عصب هذا العدو ومدد حياته ، فما كل موقع عسكري وإن تراءى لنا محصناً ومأهولاً يشكل مركز ثقل سيدافع عنه العدو بكل ما أوتي من قوة ، وما كل مغتصبة أهميتها بأهمية غيرها ، وما كل دائرةٍ حكومية أو حيٍ من أحياء هذا العدو (المعشعشة) في أحشاء مدننا وبين قرانا في مناطق الثمانية والأربعين والضفة الغربية تشكل للعدو مركز ثقل سيستميت دون سقوطه، لذلك فالهجوم المنسق يقول: أننا سنهاجم هذا الحاجز وذاك المحسوم وسنترك ما سواه، فسقوطه يعني سقوط ما دونه، ولن نهاجم تلك المغتصبة لثانوية دورها في الجهد القتالي للعدو، وسنركز ونحشد جهدنا لضرب مغتصبة محددة، فهي مركز الثقل وواسطة العقد وخيط المسبحة الذي إن قطع ؛تطايرت حبات هذه (المسبحة)، ولكن ما هو أهم في هذا الفعل ــ الهجوم المنسق ــ ما يفهم من تسميته، فهو هجوم منسق يأتي بعد عمليات تماسٍ واستطلاع بالقوة ضد العدو، قدرات الشركاء فيه معروفه، ومنطقة عمليات كلٍ منهم يجب أن تكون محددة، والجهود فيه يجب أن تكون منسقة ويخدم بعضها بعضاً، ويسد عجزها قوة البعض، والأدوار فيه معلومة، وقواعد الاشتباك فيه متفق عليها، والخيط الناظم لها عبر سلسلة القيادة والسيطرة C2 مُعرّفة ومتفق عليها مسبقاً، ونقاط الالحاق فيه محددة جغرافيا وزمانياً، إن مثل هذا الهجوم المنسق؛ هو الذي يفت في عضد العدو، ويصيبه في مقتل ويشتت جهوده ويفل حديده ، الأمر الذي لم نره في معركة ” سيف القدس ” ولو كان ؛ لأصبح العدو في خبر كان ، بدليل أن كبار قادة العدو قالوا ما مضمونه: أن ما نشهده لو كان منسقاً مشغولاً عليه مسبقاً لكنا في وضع كارثي وموقف لا نحسد عليه ، وهنا يأتي دور قيادة المقاومة بكافة تلاوينها وعلى مختلف صعدها الجغرافية أن تعمل من الآن على أن تكون المعركة القادمة فيها مرحلة ثالثة اسمها ” الهجوم المنسق ” الأمر الذي لا يمكن بسط الحديث فيه وتبيين متطلباته وطرق تجهيزه إلا خلف أبواب موصدة وبرؤوس باردة.
استثمار النصر: ثم يأتي بعد ذلك ما يعرف بين أهل الاختصاص باستثمار النصر ، إنها تلك اللحظة التي يشعر فيها العدو أنه لم يعد مسيطراً على طرقه ولا مدنه ولا مغتصباته.
قد يظن البعض أن هذه المرحلة من العمل تستلزم أن نكون في جهد مرتبط بعملية التحرير النهائية ، وإلا كيف سيستثمر النصر إن لم نكن فيها ؟ إن هذا الأمر في وجهٍ من وجوهه صحيح ؛ ولكننا الآن لا ندّعي أن الجولة القادمة قد تكون ـــ وإن كنا نأمل ويجب أن نعمل ــ هي المعركة الفاصلة التي سنجتث بها شأفة هذا المحتل ونقتلعه من جذوره إلى غير رجعة ، لذلك فإن استثمار النصر من الممكن أن يكون على شاكلة حرمان العدو من الدخول إلى بعض القرى والضواحي والمدن ولو ظرفياً ، بمعنى أن تصبح هذه القرى والضواحي محرمةً عليه ليلاً لساعات محددة ، أو أن يفقد القدرة على الدخول وممارسة عمليات الاعتقال والاستجواب ، فيلجأ مضطراً للتنسيق مع مختار الحي أو مسؤول الشارع وعمدة القرية ، ومن صور استثمار النصر ؛ أن يقوم المحتل بإجبار فتيان التلال على ترك مغتصباتهم وأكواخهم التي تشكل بؤراً للاستيطان تكبر وتتضخم ، يجبرهم على الخروج منها كونه لا يستطيع أن يضمن لهم أمنهم ، ومن أوجه استثمار هذا النصر الظرفي والمرحلي ؛ إجبار أجهزة أمن سلطة الحكم الذاتي عن التوقف عن عمليات اعتقال النشطاء والتنسيق الأمني مع المحتل ، وصور أخرى من الممكن أن يبسط الحديث فيها والتفصيل في كيفية جعلها خطوات فعلية تمهيدية لكنس المحتل من الضفة الغربية لتكون قاعدة مقاومة على شاكلة غزة ، هل هذا ممكن ؟ نعم ومقدور عليه .
المطاردة : ثم تأتي المرحلة الأخيرة من مراحل العمليات الهجومية ألا وهي عمليات المطاردة ؛ في العمليات العسكرية النظامية تكون عملية المطاردة بعد أن تقطع العمليات الهجومية كامل المراحل السابقة ؛فينهار أمام زخم العمليات وشدتها ، فيولي دبره آخذاً ذيله بين أسنانه ، فيُطارَد في طول منطقة العمليات وعرضها ، إلى أن يخرج خارج الحدود إن كان محتلاً أو يسيطر على أرضه بعد أن ينسحب منها ، ولكن في مثل الموقف الذي نتحدث عنه وهو مرحلة على طريق التحرير الطويل ؛ فإن المطاردة ممن الممكن أن تكون منعاً للعدو من استباحة مناطقنا والدخول فيها بحرّية ، ومنها إجبار المغتصبين على الخروج من بعض المغتصبات النائية أو العشوائية ، ومن صور المطاردة فرض كلفة عالية جداً على العدو عند تردده وتنقله على الخطوط الخارجية وبين مدن وحواضر فلسطين .
كانت هذه صوراً من صور استثمار النصر الذي نحن في حضرته ، الأمر الذي يتطلب الجلوس والتفكير واعمال النظر خلف أبواب مؤصدة لتحويل الأفكار إلى إجراءات مجدولة زمنياً ، معروفة المتطلبات المادية والبشرية ، خروجاً من مربع رد الفعل إلى رحابة صنع الفعل وتوجيهه ، تأطيراً لجهودٍ وطاقاتٍ ،كنا نقول أنها مختزنة في صدور أهلنا في كل فلسطين ، ثم رأيناها تتفجر غضباً وثورة أخرجت بعض مدننا عن سيطرة عدونا ، في غير هذه الحالة ؛ ستقاتل غزة في المعركة القادمة وحدها ، وسيقتل التنسيق الأمني طاقاتِ أهلنا وشعبنا في الضفة ، ولن يسمح له إلا بالشكليّ من الإجراءات والتحركات ، وسيستفرد بشبابنا في مناطق الثمانية والأربعين ، فيعمل فيهم اعتقالاً وتوقيفاً وتقييداً للحركة مستفيداً ــ العدو ــ مما اكتسبه من خبرات ورآه من طرق عمل منهم وتحركات ، عندها لن يفيد الندم ، ولن يفيد عليقٌ عُلِّق يوم الغارة ” ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز ”.