فلسطين المحتلة - خاص قُدس الإخبارية: اندلعت في فلسطين المحتلة هبة شعبية، هي الأولى من نوعها منذ عقود، من ناحية شموليتها على كل البلاد، ودخول فئات مجتمعية وجغرافية جديدة في الصراع، بعد أن غابت عنه لسنوات، بفعل عوامل سياسية وأمنية مختلفة، بعضها من صنع الاحتلال.
تتطلب الهبة الحالية نقاشاً في جوانب جديدة، نظراً للأحداث التي شهدتها ولم نعهد مثلها، منذ سنوات، والتخبط في أداء الاحتلال باعتراف محللين إسرائيلين وقادة عسكريين وسياسيين، في مواجهة انتفاضة الداخل والمعركة مع المقاومة في قطاع غزة، وسط مخاوف من انفجار الأحداث في الضفة المحتلة، التي تصاعدت فيها المواجهات وعمليات إطلاق النار، منذ الأسبوع الماضي.
"شبكة قدس" حاورت الباحث في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، هاني عواد، في عدة قضايا متعلقة بالهبة في محاولة لتفكيك المشهد والوصول إلى قراءة واضحة:
في البداية، ما هو تقييمك للإضراب الذي شهدته فلسطين يوم أمس وكان الأول من نوعه منذ عقود وما تخلله من مواجهات في مناطق واسعة من فلسطين؟ كيف نقرأ دلالاته السياسية والاجتماعية وانعكاساته على الاحتلال؟
أعتقد أن دلالات الإضراب الشامل هي رمزية أكثر من أي شيء آخر، لكن هذا لا يقلل من أهميتها. فالإضراب أبرق رسالة بأنَّ الشعب الفلسطيني هو شعب واحد، ولا شكّ لدي بأنه يمكن أن يمثّل انعطافة في وعي فلسطينيي الداخل المحتل عام 1948 بأنّ مصائرهم لا تختلف كثيرًا عن مصائر بقية الشعب الفلسطيني في الداخل وفي الشتات، وسيمثل خطوة هامّة - إن أُحسن استثماره سياسيًا- نحو تبديد أوهام خطاب الاندماج والأسرلة، وهو الخطاب السياسي المهيمن بين القيادات والنخب العربية هناك. غير أن هذه الدلالة الرمزية كذلك مهددة بأن تتحوّل إلى «استثناء»، كما كان الحال في هبة أكتوبر غداة الانتفاضة الثانية ومن قبلها حركة الأرض عام 1976، في حال لم تصل القيادات العربية في الداخل المحتلّ إلى قناعة بأن خطاب الاندماج في الدولة اليهودية هو وهم، وفي حال عجزت الحركة الوطنية الفلسطينية بشكل عام عن اجتراح استراتيجية تحرر وطني وبرنامج مشترك يشمل فلسطينيي الداخل. وقد تؤدي كذلك إلى نتائج عكسية في حال شعر فلسطينيو الداخل أنهم لوحدهم. فيجب ألا ننسى بأن فلسطينيي الداخل هم في النهاية أقلية داخل ما يسمى إسرائيل، وفي حال تُركوا لوحدهم فمن الطبيعي أن يتصرفوا كأقلية.
هل ما نشاهده في فلسطين نقلة نوعية في الصراع خاصة بعد دخول مدن في الداخل إلى المواجهة بعد غياب لعقود؟ أم أن الأمر بحاجة لوقت لانتظار النتائج والتأكد منها؟
من الخطأ برأيي انتظار نتائج آنية وسريعة لمثل هذا النوع من الصراعات٫ فمثل هذه الأحداث لا تُقاس بالخسائر المادية ولا التقدم والتراجع، بل بمدى قدرة القويّ على السيطرة وكيّ وعي الضعيف. كما أن «النقلة النوعية» لا تعتمد فقط على قدرة الشعب الفلسطيني على المقاومة، بل ترتبط كذلك بالتحولات الدولية والإقليمية. فالقضية الفلسطينية في النهاية مرتبطة بشكل كبير بالأبعاد الإقليمية والدولية ولا يمكن توقع تحولات نوعية دون وجود دعم إقليمي عربي وقناعة دولية، ولا يوجد مؤشرات حقيقية عن تغيرات تجري بهذا الخصوص.
هل ترى أن الخطاب الإعلامي للمقاومة الفلسطينية في غزة ساهم بإشعال المواجهات في الداخل والقدس والضفة؟ أم أن للأحداث خلفيات أخرى ساهمت في دفعها للأمام؟
لا أعتقد بأن الخطاب الإعلامي للمقاومة ساهم بذلك، فلدى الفلسطينيين ألف سبب وسبب للاشتعال ضد النظام الاستعماري الصهيوني. ما أشعل هذه المواجهة برأيي هو رمزية المسجد الأقصى والقدس الدينية والقومية. أما تدخّل المقاومة فقد كان برأيي قرارًا سياسيًا يهدف إلى تعزيز شعبية وقوة المقاومة في الضفة الغربية والقدس (خاصة في ظلّ وجود قناعة شعبية بعجز سلطة رام الله عن التقدم خطوة واحدة إلى الأمام)، وهو قرار من الصعب في الوقت الحالي تكهن نتائجه إن كانت إيجابية أو سلبية.
هناك رأي يتحدث عن ضرورة تشكيل تنظيم اجتماعي سياسي يقود المواجهة الحالية وانبثاق قيادة للحراك، هل تتفق مع هذا الرأي؟ أم أن الحراك يخلق قيادته بنفسه؟
قد تبدأ المظاهرات بشكلٍ عفويّ ولكن القيادات لا تنبثق هكذا من العدم. لن نصحو غدا على قيادات جديدة، فالقيادة بحاجة إلى تنظيم والتنظيم بحاجة إلى قرار سياسي ودعم مالي وعلاقات دولية. حتى المظاهرات نفسها لا يمكن توقع أن استمرارها بشكل عفويّ، بل بقرار سياسي ودعم متواصل من مؤسسات سياسية قوية وهذا يتطلب أن تكون ضمن استراتيجية سياسية جديدة.
أي مستقبل للعمل الوطني الفلسطيني في الداخل المحتل؟ وهل سنرى تراجعاً للقيادات التقليدية خاصة بعد الانتقادات لها وحالة الغضب التي عبر عنها النشطاء والشبان بعد الصفقات التي عقدها جزء منها مع قيادات في الأحزاب الصهيونية؟
الخطاب السياسي المهيمن حاليا في الداخل المحتل هو خطاب نصف فلسطين- نصف إسرائيلي. الناس هناك بالإجمال تشعر بتهديد ثقافي وقومي ولكنها في الآن نفسه ترغب بحقوق داخل الدولة اليهودية وخدمات. تغير القيادات لا يحدث بشكل اوتوماتيكي بل بنشوء قيادة فلسطينيية موحدة تنتج برنامج وطني يشمل فلسطينيي الداخل ويشعرهم بأنهم جزء من كلّ، وهذا لن يحدث في يوم وليلة.
الحراك الحالي أعطى أملاً لدى كثيرين أن يتجاوز فلسطينيو الداخل والضفة والقدس حالة التقسيم والتشظي التي فرضها الاحتلال عليهم، ما توقعات في هذا السياق؟
لا توقعات آنية. النضال الفلسطيني نضال طويل وماراثوني، ومخطئ من يعتقد بأننا سنصحو على واقع جديد. أملي بأن تصل سلطة رام الله إلى قناعة بأن مسار المفاوضات قد انتهى وأنه لا بد من نقل المواجهة إلى مستوى مختلف عبر إعادة إحياء منظمة التحرير الفلسطينية وصياغة استراتيجية نضال مشتركة بالاتفاق مع حماس تشمل الداخل المحتل والشتات.
القيادة السياسية الرسمية الفلسطينية تواجه غضباً متزايداً في المجتمع الفلسطيني كما يؤكد مراقبون ومحللون، هل ترى أن الفصائل والقوى الأخرى على الساحة خاصة حماس والجهاد قادرة على تجاوز السلطة أو تصدر المشهد في الفترة المقبلة؟ وما هو المطلوب من الكل لخلق خطاب سياسي ونضالي جديد يلبي مطالب الناس وينسجم مع تضحياتهم؟
لا شك لديّ بأن تربّع حماس على رأس النظام السياسي الفلسطيني هو مسألة وقت لا أكثر. والظروف التي نعيشها اليوم تشبه نوعا ما الظروف التي عاشتها الحركة الوطنية الفلسطينية عشية معركة الكرامة عام 1968 حينما أطاحت تلك المعركة على الرغم من محدوديتها النخبة الفلسطينية القديمة ممثلة بالشقيري وجلبت عرفات. وفي ظل العجز البنيوي التي وصلت إليه سلطة رام الله فالبديل الشرعي الوحيد هو حماس. لكن لا يجوز ايضا تجاهل أن سلطة رام الله هي شبكة ضخمة جدا من الموظفين والمحسوبيات المعترف بها دوليا ولا يمكن تجاوزها. لذلك لا بديل من التوافق في إطار منظمة التحرير الفلسطينية في معادلة لا غالب ولا مغلوب، ولكن ذلك يلزم برنامج مشترك، ولا مؤشرات حتى الآن تدل على ذلك.
ما هي أبرز السمات التي لاحظتها في المرحلة الحالية من المواجهة الحالية مع الاحتلال في فلسطين؟ وكيف يمكن استثمارها مستقبلاً؟
أهم إنجاز لهذه المعركة أنه بدد الأوهام بأن القضية الفلسطينية جرت تصفيتها، وأن الفلسطينيين تأقلموا مع الاحتلال. وذلك على الرغم من توحش إسرائيل والدعم الدولي والأمريكي غير المحدود لها وبالرغم من هرولة الدول العربية نحو التطبيع. في النهاية هذا الشعب قادر أن ينهض كطائر الفينيق ويرفض الذوبان. لا يمكن استثمار هذه المواجهة إلا من خلال إنتاج برنامج وطني مشترك يشمل جميع الفلسطينيين في كل مكان في إطار منظمة التحرير الفلسطينية.