السجال الذي دار على هامش التفاعل الكبير مع وفاة الدكتور الفلسطيني عبد الستار قاسم، حول دور المستقلين في السياسة الفلسطينية، ينبثق في الأساس عن الأزمة الراهنة للفصائل الفلسطينية، وهي أزمة جديرة بأن تدفع للبحث عن صلتها بعزوف الجماهير الفلسطينية عن قضايا العمل العام، وعن الالتحاق بالفصائل الفلسطينية القائمة، وعن الأطروحات التي لم تزل، منذ سنوات، تقترح أفكاراً لتجاوز الحالة الفصائلية.
شهرة الدكتور عبد الستار قاسم، في انغماسه في العمل العام من خارج الأطر الحزبية التقليدية، وما تمتع به من شجاعة لافتة ومواقف جذرية؛ لم تؤثّر عليها الأثمان التي تكبّدها من اعتقال ومحاولة اغتيال ومسّ ببعض ممتلكاته.. جددت ذلك النقاش الموجود سلفا، ولا يمكن، والحال هذه، التجاوز عن كون هذا الانغماس المقرون بالمواقف المبدئية والشجاعة للدكتور قاسم، سببا أساسا في تفاعل الجماهير معه، إلا أنّ تحرّره من الاستقطاب الحزبي يمنح مواقفه مصداقية أكثر، تلتقطها الجماهير بذكاء فطريّ.
إذا كان موقف الدكتور قاسم من حركة فتح وخطّها السياسي حاسما، بالافتراق عنه تماما، ونقد أصحابه بحدّة لا تتوخى المجاملة وتفتقر للحسابات الشخصية، ممّا عرضه للأذى المشار إليه، فإنّ دعمه لمقاومة حماس لم يمنعه من نقدها، في إطار قراءة يرى فيها أنّ حماس تسير على خطى منظمة التحرير
التحرّر من الاستقطاب لا يعني التجرّد من المواقف، ولا المساواة بين الفرقاء، فإذا كان موقف الدكتور قاسم من حركة فتح وخطّها السياسي حاسما، بالافتراق عنه تماما، ونقد أصحابه بحدّة لا تتوخى المجاملة وتفتقر للحسابات الشخصية، ممّا عرضه للأذى المشار إليه، فإنّ دعمه لمقاومة حماس لم يمنعه من نقدها، في إطار قراءة يرى فيها أنّ حماس تسير على خطى منظمة التحرير. فعلى مدار فترة طويلة، تمسّك قاسم بهذا الموقف، وفي نيسان/ أبريل 2008 كتب مقالة بعنوان "حماس على خطى منظمة التحرير"، ثم أعاد طرح أفكار تلك المقالة في آب/ أغسطس 2015 بعنوان "حماس وخطى منظمة التحرير (2)". وهو ما رددت عليه في الشهر نفسه وفي المكان نفسه، دون أنّ أخصّ قاسم بالردّ، وذلك في مقالة لي بعنوان "حماس وخطى فتح!". ولم يكن ردّي ليفسد العلاقة الطيبة التي جمعتني بالدكتور، وكانت تتجلّى في لقاءاتنا في بعض الندوات والمؤتمرات.
ينحاز الدكتور قاسم بشدّة لحماس في سلوكها المقاوم على الأرض، متعدّد الأشكال، من تعزيز بنيتها العسكرية في قطاع غزّة، واشتباكها المباشر مع الاحتلال في بعض المحطات، وتحالفاتها التي تستند إلى قوى يراها أكثر جذرية في العداء للاحتلال الإسرائيلي. هذه التحالفات كانت مفتاحا لنقد علاقة حماس بقوى أخرى يرى فيها قاسم ما يثير الريبة لتحالفها مع أمريكا، أو احتفاظها بقدر من العلاقة مع "إسرائيل"، وهو ما يتصل بنقده لحماس فيما يخصّ تحسّسه لخطواتها السياسية التي تتبع في الجوهر (كما يرى) خطوات فتح السياسية.
إنّ نقد قاسم لجوهر السلوك السياسي لحماس، قاس، لكنّه أقلّ حضورا من دعمه لمسلكها المقاوم، أو من نقده بالغ الحدّة والجذريّة والوضوح لسياسات حركة فتح، الأمر الذي أبقاه محلّ تقدير جمهور حركة حماس.
نقد قاسم لجوهر السلوك السياسي لحماس، قاسٍ، لكنّه أقلّ حضورا من دعمه لمسلكها المقاوم، أو من نقده بالغ الحدّة والجذريّة والوضوح لسياسات حركة فتح، الأمر الذي أبقاه محلّ تقدير جمهور حركة حماس
ربما لا ينحصر موقف قاسم النقدي من حماس في اختياراتها السياسية، التي تذكّره بمسار فتح الطويل، منذ سبعينيات القرن الماضي وصولا لتوقيع اتفاقية أوسلو، إذ كان يُظهر نوع عتب، لكون حركات المقاومة لا تسترشد بشكل كاف بالخبراء المختصين، وهو بالضرورة واحد من هؤلاء.
ليست القضية شخص الدكتور قاسم، وإن كان هو المناسبة لهذا الحديث، وإنما القضية التي يجري استدعاؤها بين فترة وأخرى، هي موقع المستقلين في الحياة السياسية الفلسطينية، الأمر الذي يوجب مناقشتها من جانبين، الأول فحص وجاهة تجاوز الفصائل بالمستقلين، والثاني دواعي أطروحة كهذه.
من نافلة القول، إنّ الوظيفة الأساسية للفصائل الفلسطينية، هي تدبير أمر الصراع مع الاحتلال، والاشتغال على استراتيجيات التحرير، وكلما كانت الفصائل أكثر التصاقا بهذه الوظيفة، كما في معسكرات الثورة الفلسطينية المعاصرة منذ منتصف ستينيات القرن الماضي، والانتفاضة الأولى، والثانية، كلما باتت أقرب لأن تكون حالة مجتمعية وشعبية ترى فيها الجماهير الفلسطينية نفسها، وكلّما ابتعدت عن هذه الوظيفة لصالح التنافس، أو الصراع، على إدارة سلطوية محكومة بسقوف الاحتلال، كلّما أخذت الجماهير في الابتعاد عنها.
فالإشكال ليس في مبدأ الوجود الحزبي المنظم، وإنما في تحوّل وظائف وطبائع وسمات هذا الوجود، مما يعني استحالة تجاوز الحالة الفصائلية بالمستقلين إذا أريد من ذلك مواجهة الاحتلال، فالاحتلال المنظم لا تمكن مواجهته إلا بأدوات منظمة، وأي أشكال أخرى، ذات طابع عفوي، أو فوضوي، لا بدّ لها، إن أريد لها الاستمرار، من التحول نحو النمط التنظيمي، بغضّ النظر عن شكل التنظيم ودرجته. ولا يمكن للمستقل، مثقفا كان أو مهنيّا، أن يدير صراعا مع العدوّ المنظم بلا جمهور منظم مستجيب له، يمثّل أهمّ أدواته في الضغط على الاحتلال واستنزافه، واستعراض القوّة به أمام القوى المؤثّرة في مسارات القضية الفلسطينية.
الإشكال ليس في مبدأ الوجود الحزبي المنظم، وإنما في تحوّل وظائف وطبائع وسمات هذا الوجود، مما يعني استحالة تجاوز الحالة الفصائلية بالمستقلين إذا أريد من ذلك مواجهة الاحتلال، فالاحتلال المنظم لا تمكن مواجهته إلا بأدوات منظمة
إنّ شعور الجماهير بانحراف الفصائل عن وظيفتها الأساس، أدخل الجماهير في حالة من الاغتراب عن القضيّة نفسها. وفضلا عن سياسات تحييد الجماهير عن الهمّ العام التي انتهجتها السلطة، فإنّ الذكاء الفطري لتلك الجماهير يدرك أنّها عاجزة دون الأجسام المنظمة القوية عن القيام بواجبها تجاه القضية، مما يدفع الجماهير إمّا إلى محاولة استنهاض الفصائل ثم التأطّر بها كما حصل في الانتفاضتين، أو الاغتراب بعد العجز عن استنهاضها. وهنا يمكننا استحضار العديد من الحراكات منذ عشر سنوات، أبرزها الهبّات الشعبية منذ العام 2014، دون أن تتمكن الفصائل من التقاطها وتطويرها.
بيّنت الهبّات إمكان التفكير والعمل خارج المسارات المأزومة، وتحديدا خارج مسار السلطة والانحشار فيه، إلا أنّ التفكير والعمل من داخل المسارات المرسومة سلفاً، أسهل، والاستسهال ينمّ عن حالة من التكلّس، والاسترواح لظروف قائمة فاسدة، تتمثل في تصلب مفاصل العمل التنظيمي الداخلي، وفي جمود الفكر التنظيمي، وإذا ما أخذت حالة كهذه في السيادة على أيّ تنظيم، فإنّها إشارة على شيخوخة، يتحول فيها الفصيل إلى نمط من الإدارة النخبوية الاحتكارية الداخلية، على حساب الاستثمار في الجماهير، والتجربة الفلسطينية التاريخية لا تنقصها الأمثلة للتدليل على مآلات هذه الأمراض التنظيمية.
لا يعني ذلك رفض الجماهير التفات الفصائل لإدارة سلطة باتت قائمة، بغض النظر عن سياقات تأسيسها وأدوارها، لمحاولة التأثير الإيجابي على واقعها، بتحويلها إلى وسيلة لتعزيز صمود الفلسطينيين في أرضهم، وهو ما يتطلب عدم تأثير هذا الالتفات على وظيفة الفصائل الأصلية، وثانيا أن يحقّق أغراضه الوطنية، إلا أنّه، وبالإضافة للفساد والصراع المرير على السلطة، يمكن القول إنّ هذا الالتفات، وبدلا من تحويل السلطة إلى أداة لتعزيز الصمود، حوّل مجال السلطة الجغرافي، في الضفّة أو في غزّة، إلى بيئة طاردة للسكان!
أوّل ما تحتاجه الفصائل للتعافي من أعراض الشيخوخة، هو التخلص من النمط الاحتكاري النخبوي في الإدارة الداخلية، بما يفرض إتاحة المجال للتفكير الحرّ داخل الفصيل وخارجه، ومنح الأولية للاستثمار في الجماهير، وبما أنّ هذه الفصائل تؤثر في حياة الناس ومصائرهم، وتدير صراعهم مع عدوهم، بل وتديرهم سلطويّا، فعليها أن تتعامل مع كلّ فلسطيني على أنه منتم لها حزبيّا، حتّى لو كان مستقلا أو خصما لها، متحرّرة من القَبَلِية الحزبية، ومن أمراض تصنيم الحزب والقيادة.