لم أثق في يوم من الأيام بأن السلطة ستخرج من مجرى أوسلو، أو تغادر نهجها وخياراتها، والذهاب نحو الشراكة الوطنية مع بقية القوى والمكونات السياسية الفلسطينية، لبناء مسار سياسي كفاحي جديد.
فكل الممارسات والمواقف التي كانت تتخذها السلطة، أو الخطوات التي كانت تقدم عليها في سياق وإطار علاقاتها مع الاحتلال، كانت تأتي في إطار تكتيكي استثماري لتحسين موقعها ودورها وحضورها، في إطار العملية التفاوضية، ضمن نفس الأساس السياسي وليس الخروج عليه أو التحلل منه، وعندما كانت توافق على قرارات المجلسين المركزي والوطني وما يسمى باللجنة التنفيذية، فهذا فقط من باب تنفيس حالة الاحتقان الشعبي والجماهيري.
والسلطة عندما جاءت “صفقة القرن”، وما تضمنته من ضم وتهويد للأرض، وبعد خصم حكومة الاحتلال ما يدفع لعائلات الأسرى والشهداء من أموال المقاصة، صعدت على الشجرة وأعلنت رفضها استلام أموال المقاصة منذ 6 شهور، واتخذت قرارات بوقف التنسيق الأمني والمدني، فترامب لم يترك لها أي فرصة أو دور في عملية سياسية تحفظ لها ماء الوجه، ومن أجل أن تلفت الانتباه إلى وجودها وحضورها توجهت إلى الفصائل، بأنها ستعمل على بناء شراكة وطنية وجماعية في القرار، ورسم رؤيا وإستراتيجية جديدتين لمجرى سياسي وكفاحي جديدين يقومان على الصمود والمقاومة.
ومن هنا كانت لقاءات الأمناء العامين في أوائل أيلول، ومن ثم حوارات اسطنبول بين فتح وحماس، والحوارات في دمشق بين الفصائل الفلسطينية إلى مسرحية حوارات القاهرة بين الحركتين، والحديث عن خارطة طريق وطنية اتفقتا عليها تعرض في حوار وطني شامل وبرعاية مصرية.
ولكن على أرض الواقع، كانت السلطة توظف ورقة الكل الفلسطيني، من أجل كسب الوقت وفي الإطار التكتيكي خدمة لمشروعها ولمصالحها، وتنتظر نتائج الانتخابات الأمريكية لكي تقرر وجهتها السياسية.
وفي هذا السياق كانت بعض الدول الأوروبية وخاصة النرويج عرابة أوسلو، تعمل على ترتيب عودة علاقة السلطة بإسرائيل، وجرى تدخل من ما يسمى بالكونغرس الإسرائيلي - الأمريكي، حيث جاء رئيسه جون لورد إلى المقاطعة، وحذر الرئيس من الذهاب، في مسار الوحدة الوطنية وإنهاء الإنقسام، ودمج حماس في النظام السياسي الفلسطيني، ولذلك بقيت مخرجات اجتماع الأمناء العامين، وحوارات اسطنبول، وما يسمى بالمقاومة الشعبية حبراً على ورق، ولم يصدر الرئيس مرسومه لإجراء الانتخابات.
وتحدثت وسائل إعلام عن دور أوروبي لترتيب استلام السلطة لأموال المقاصة، حيث رفض الاتحاد الأوروبي طلب السلطة بإعطائها قرضًا ماليًا، وأصر على استلامها لأموال المقاصة من دولة الاحتلال.
السلطة لم تغادر خانة التجريب والمقامرة بحقوق شعبنا الفلسطيني، ورهنها بالمتغيرات التي تحدث في دولة الاحتلال والولايات المتحدة الأمريكية، ولذلك وجدت بأن فوز بايدن في الانتخابات الأمريكية، قد يعيدها إلى الواجهة، خاصة وأن النظام الرسمي العربي في فجوره التطبيعي مع دولة الاحتلال، وقطع "صنابير" المال عن هذه السلطة، وما ينفذه نتنياهو على الأرض من مخططات ومشاريع استيطانية غير متوقفة، قد يدفع بهذه السلطة إلى التفكك والتلاشي.
ولذلك لكي تخرج من هذا المأزق، رغم معرفتها وإدراكها العميق بأن بايدن لا يختلف جذرياً عن ترامب، وبأن الفروقات بين الطرفين تجميلية وشكلية وليست جوهرية، والحزبان الكبيران في أمريكا متفقان على تفوق إسرائيل العسكري والأمني، وبأن القدس الموحدة عاصمة لدولة الاحتلال، ولا عودة لحدود الرابع من حزيران عام 1967، ولا عودة لللاجئين إلى ديارهم وأراضيهم التي طردوا وهجروا منها قصراً بفعل العصابات الصهيونية.
وأقسى ما سيقوم به بايدن هي خطوات في الجوانب الاقتصادية والإنسانية، مشاريع اقتصادية، والطلب من اسرائيل بإعادة أموال المقاصة، وفتح مكتب المنظمة في واشنطن، وتمويل جزئي لوكالة الغوث وتشغيل اللاجئين، وربما إعادة فتح القنصلية الأمريكية في القسم الشرقي من المدينة، ولكن السفارة الأمريكية ستبقى في القدس، والقدس ستبقى عاصمة موحدة لدولة الاحتلال، ودعوة السلطة للعودة إلى المفاوضات على نفس الأساس السياسي، دون ربط ذلك بتوقف الاستيطان، أو حتى تحجيمه، والعودة إلى إدارة الصراع وعدم العمل على حله، والدخول في متاهة ما يسمى بالمؤتمر الدولي التي لا يكف الرئيس عن ترديدها، وفي ذلك توفير الجهد للوقت للإدارة الأمريكية لكي تتفرغ لترتيب البيت الداخلي الأمريكي الذي انقسم عمودياً، وكذلك مجابهة انتشار جائحة "كورونا" واحتواء تداعياتها على الاقتصاد الأمريكي والتفرغ للملف النووي الإيراني.
للوهلة الأولى وأنا استمع لوزير الشؤون المدنية حسين الشيخ، وهو يعلن بأننا انتصرنا، وبأن هذا النصر العظيم نتاج صمود واتصالات الرئيس، كنت أعتقد بأن الإدارة الأمريكية قد بعثت رسالة إلى الرئيس باعتبار القيادة الفلسطينية مختزلة فيه، تعلن فيها عن إلزام إسرائيل بوقف الاستيطان، وإطلاق سراح الأسرى الفلسطينيين، والموافقة على مؤتمر دولي كامل للصلاحيات لتنفيذ القرارات المتعلقة بالقضية الفلسطينية، وإذ نحن أمام رسالة إدارية مما يسمى بشؤون المناطق "الحاكم العسكري" أبو الركن، يعلن فيها عن إعادة صرف المقاصة للسلطة الفلسطينية، وأن ما قامت به إسرائيل شرعي، وبأن السلطة هي التي مارست “الحرد”. وأكد على الالتزام بالإطار القانوني الذي يحكم العلاقة بين الطرفين في الشق المالي.
رسالة مسؤول إدارة مدنية كان مفعولها أكبر من مفعول كل القوى والأحزاب، وكل ما جرى الاتفاق والتوافق عليه فلسطينياً في اجتماع الأمناء العامين ما بين بيروت ورام الله، وحوارات اسطنبول بين فتح وحماس، وحوارات الفصائل الفلسطينية في دمشق، يبين بأن العلاقة مع دولة الاحتلال وأمريكا تتقدم على العلاقة مع القوى والفصائل وترتيب البيت الداخلي الفلسطيني، وكانت مصالح البعض من تحالف القيادة المتنفذة والمال السياسي والكمبرادور فوق مصالح الشعب الفلسطيني.
ما جرى ليس بالمفاجىء والغريب، وكذلك النفخ والتضخيم لهذه الرسالة الإدارية، هو من أجل الاستمرار في خداع وتضليل الشعب الفلسطيني وجماهيره، تماماً كما جرى النفخ في الانتصار المتحقق من مسلسل المفاوضات العبثية التي استمرت 25 عاماً.
نحن أمام تنكر واضح لقرارات المجلسين المركزي والوطني، وحتى ما قاله الرئيس نفسه في 19/5/2020، من التحلل من كل الاتفاقيات مع دولة الاحتلال وأمريكا، واستخفاف في الكل الفلسطيني، ولنتائج اجتماع الأمناء العامين الذي عُقد مُؤخرًا في بيروت، وتفجير لجهود المصالحة، وكذلك يمثل طعنة للجهود الوطنية نحو بناء شراكة وطنية، وإستراتيجية نضالية لمواجهة الاحتلال والضم والتطبيع وصفقة القرن.
تبرير السلطة لقرارها بعودة العلاقات مع دولة الكيان ما هو إلا تبرير للعجز والاستسلام أمام العدو، الذي لم يحترم أو يلتزم بأيٍ من الاتفاقات معه رغم كل ما حققته له من اعتراف ومكاسب إستراتيجيّة، ولم تتوقّف سياسته في تعميق احتلاله الاستعماري للأراضي الفلسطينيّة، وبضمنها سياسة الضم التي كان أحدث تجلياتها الإعلان عن بناء آلاف الوحدات السكنية الاستيطانية، وشق الطرق التي تفصل مدينة القدس عن محيطها الفلسطيني، وتكرّس المعازل بين المدن والقرى الفلسطينيّة.
ولذلك أرى بأن تسويق السلطة لقرارها على أنه انتصار هو تضليل وبيع الوهم لشعبنا بهدف العودة لرهان المفاوضات، وعلى الإدارة الأمريكيّة القادمة، وعلى وهم إمكانية الوصول إلى حلٍ سياسي لحقوق شعبنا من خلال تمسكها بالاتفاقيات مع العدو رغم كل ما ألحقته من أذى بهذه الحقوق، وما وفرته من غطاءٍ للعدو في استمرار تعميقه لمشروعه الاستعماري الاستيطاني الإجلائي، عدا عن أنه يشكّل تغطية للدول العربية التي قامت بالاعتراف والتطبيع مع دولة العدو، وسيشجّع دول أخرى للالتحاق بهذا الركب.