لا يمكن مطلقا، اعتبار تطبيع الأنظمة الخليجية مع الاحتلال الاسرائيلي تعبيرا عن الرأي ورغبة الشعوب العربية هناك، حتى وإن شعر الفلسطينيون بعكس ذلك، أي بتماهي الشعوب الخليجية مع أنظمتها، فتحليل البنية السياسية والاجتماعية والاقتصادية للأنظمة الخليجية، لا يدعم هذا الافتراض.
إن هذه الأنظمة ومنذ بداية تأسيسها، أي منذ تحول القبيلة الى مؤسسة حكم يتمحور حولها العمل السياسي في البلاد بشكل كامل، والتي يشكل فيها زعيم القبيلة أو شيخها موقع التوقير والاحترام والسمع والطاعة ورأس الدولة، يعتبر فيها رأي رأس هذا النظام نافذاً وغير قابل للنقض من قبل أي مؤسسة أخرى ويقوم هذا الزعيم القبلي الذي يرث الحكم عمن سبقه من أب أو أخ أو غير ذلك بتعيين أفراد أسرته في المناصب الحساسة ومن يثبت ولاؤهم لهذه القبيلة من الأفراد أو العائلات.
وبالتالي فإن هذا النظام يعبر بشكل أساسي عن إرادة الحاكم لا المحكوم. ونظرا لأن هذه الأنظمة القبلية، تسيطر على مقدرات البلاد بأكملها، ومن أهمها القطاع العقاري والنفط، وتمتلك مفاتيح الاقتصاد والاستثمار ووسائل الاعلام، فإن هذه الأنظمة ووفقا لتاريخها القبلي، أسهمت في خلق النخب المجتمعية ، فالنخب السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية لا يمكن السماح لها بأن تصبح جزءً منّ عليّة القوم إلا في حال تبنت هذه النخب سياسات الحكم في دول الخليج، ودافعت عنها باعتبارها جزءً من مصالحها الذاتية. فوجود النظام وبقاءه يعني استمرار حصول هذه النخب على مصالحها، كما أن تبرع هذه النخب في تبني سياسات الحاكم والدفاع عنها يعني أنها ستبقى جزءً من الطبقة " المرضي عنها " .
إن هذا النمط من الحكم، أسهم بما يمكن إطلاق عليه " هندسة التطبيع " أي خلق واقع إفتراضي مزيّف يشعر الآخرين بحالة المتاهي الشعبي مع الحاكم ، فهذا النظام أنتج طبقة المثقفين والاقتصاديين والسياسيين الذين يدافعون عن التطبيع، وبجرّة قلم يهدم هؤلاء في ذواتهم ثقافة العداء للاحتلال، ليس هذا فحسب، بل تجاوز ذلك لتبني وجهة نظر العدو من جهة، واعتبار الضحية هي العدو الجديد. وعلاوة على ذلك، فإن الدولة وأجهزتها السيادية تفتح لهذه النخبة أبواب وسائل الاعلام، وحرية التعبير عن رأيها حتى في الحالات الأكثر تطرفا من موقف النظام نفسه ، وهو ما يمنح الناظر لهذه الدول من بعيد، ومن يتابعها من خلال وسائل الاعلام التي هي إما أنها مملوكة للدولة، أو أنها مملوكه لهذه الطبقة من المثقفين، - خاصة إن كان فلسطينيا - فإنه يشعر أن المناخ العام للدولة شعبا وحكمة يتماهى في قبول العلاقة الطبيعية مع الاحتلال، وأن هناك حالة رضاء عام في هذه الدول بالتطبيع مع إسرائيل .
يرافق تعبير هذه النخب الزبائنية عن مواقفها تجاه التطبيع، الهجمات المنظمة للذباب الإلكتروني، وهي مجموعة كبيرة من الحسابات الوهمية على مواقع التواصل الاجتماعي، خاصة تويتر الأكثر انتشارا في الخليج، وتدار بشكل آلي من قبل مبرمجين مرتبطين بأجهزة حكومية وأمنية حيث تنشر هذه الحسابات مئات آلاف التغريدات المؤيدة للتطبيع، والتي تكيل السُباب للشعب الفلسطيني. إن الوظيفة الأساسية لهذه الحسابات هي نشر وإعادة نشر تغريدات في العالم الافتراضي لتصبح وكأنها رأي عام لمستخدمين يبدون وكأنهم مجمعون على رأي واحد.
وقد يسأل أحدهم .. إذن أين موقف المواطن الخليجي العادي ؟! إن التشريعات الخليجية، خاصة ذات العلاقة بالتعبير عن الرأي قد صممت خصيصا لكبح جماح وتعطيل قدرة أي مواطن خليجي عن التعبير عن رأيه، خاصة فيما يتعلق بسياسات الدولة، فعلى سبيل المثال، فإن قانون المرسوم بقانون 5 لسنة 2012 بشأن مكافحة جرائم تقنية المعلومات في دولة الامارات في المادة 28ينص على : " يعاقب بالسجن المؤقت والغرامة التي لا تجاوز مليون درهم كل من أنشأ أو أدار موقعا إلكترونيا أو أشرف عليه أو استخدم معلومات على الشبكة المعلوماتية أو وسيلة تقنية معلومات بقصد التحريض على أفعال ، أو نشر أو بث معلومات أو أخبار أو رسوم كرتونية أو أي صور أخرى ، من شأنها تعريض أمن الدولة ومصالحها العليا للخطر أو المساس بالنظام العام " .
في حين تنص المادة المادة 29 على " يعاقب بالسجن المؤقت والغرامة التي لا تجاوز مليون درهم كل من نشر معلومات أو أخبار أو بيانات أو إشاعات على موقع إلكتروني أو أي شبكة معلوماتية أو وسيلة تقنية معلومات بقصد السخرية أو الإضرار بسمعة أو هيبة أو مكانة الدولة أو أي مؤسساتها أو رئيسها أو نائبه أو حكام الإمارات أو أولياء عهودهم أو نواب حكام الإمارات أو علم الدولة أو السلام الوطني أو شعارها أو نشيدها الوطني أو رموزها " أما المادة 30 فقد نصت على أن " يعاقب بالسجن المؤبد كل من أنشأ أو أدار موقعا إلكترونيا أو أشرف عليه أو نشر معلومات على الشبكة المعلوماتية أو وسيلة تقنية معلومات ، تهدف أو تدعو إلى قلب أو تغيير نظام الحكم في الدولة أو الاستيلاء عليه أو إلى تعطيل أحكام الدستور أو القوانين السارية في البلاد أو المناهضة للمبادئ الأساسية التي يقوم عليها نظام الحكم في الدولة " في حين أن المادة 31 قد نصّت على " يعاقب بالحبس والغرامة التي لا تقل عن مائتي ألف درهم ولا تجاوز مليون درهم أو بإحدى هاتين العقوبتين كل من دعا أو حرض عن طريق نشر معلومات على الشبكة المعلوماتية أو وسيلة تقنية معلومات إلى عدم الانقياد إلى القوانين والأنظمة المعمول بها في الدولة " .
إن هذه القوانين الصارمة، لا تترك مجالا للمواطن العاديّ أن يعبر عن رأيه مطلقا، فهي تحاسبه حتى على السخرية من القرارات والسياسات الحكومية! وبالتالي فإن المواطن العربي في دول الخليج يجد أن دفاعه عن الشعب الفلسطيني في ظل التطبيع المُعيب أمرا يعرض سلامته للخطر.
إن هذه العوامل، أي بنية نظام الحكم، والنظام الزبائني الذي يقوم عليه، ووسائل السيطرة الاقتصادية والاجتماعية والاعلامية التي تستخدمها هذه الحكومات، بالإضافة إلى الترهيب بالقانون، هو ما يخلق الشعور بتماهي المواطن الخليجي مع الحاكم.
إن هذا الافتراض، قد يدفع الفلسطيني لردات فعل مضرة، من بينها مناهضة التحول من العداء للأنظمة للعداء للمواطن ذاته، والعداء للثقافة الخليجية، والعادات والتقاليد الشعبية هناك كالزيّ الشعبي، والاستهزاء به كشكل من أشكال رفض هذا التماهي، وهذا النوع من ردّات الفعل تستفز المواطن الخليجي العادي، والذي يكون بطبيعة الحال مناصرا للقضية الفلسطينية فطريا، وتجرّه نحو معسكر الذباب الإلكتروني أو الترويج لأكاذيبه أو تفهم مواقف الأنظمة.
لذلك فإن من المهم أن يكون لدى السلطة الفلسطينية استراتيجية رسمية للتعامل إعلاميا مع مسألة التطبيع، قائمة على ما أعلن سابقا البيان صادر عن ديوان الرئاسة الفلسطيني من رفض الرئيس محمود عباس المساس بأي من الرموز السيادية لأي من الدول العربية الشقيقة، بما فيها دولة الإمارات.
إن هذه الاستراتيجية، عليها أن تستلهم تجربة الثورة الفلسطينية في أحداث أيلول الأسود، حيث وصل التناقض بين الثورة الفلسطينية والمملكة الاردنية حدوده القصوى، بل وضعت أدبيات الثورة في سبعينات القرن الماضي النظام الأردني نفسه في ذات المرتبة مع الاحتلال، إلا أن الثورة الفلسطينية حينها لم تشمل في عداءها آنذاك المواطن الاردني أو الثقافة الأردنية . وهو ما يجب أن يأخذه الفلسطينيون اليوم بعين الاعتبار في علاقتهم مع الأنظمة الخليجية.
وعليه فإن هذه الورقة، توصي بإتباع استراتيجية فلسطينية إعلامية لمواجهة عملية هندسة التطبيع تقوم على التالي:
-
الإعلان رسميا واضح أن الخلاف مع الانظمة الخليجية لا يعني مطلقا الخلاف مع الثقافة الخليجية، وتجريم ومنع الآراء المتطرفة والمسيئة للشعوب الخليجية من الظهور باستخدام وسائل إعلام رسمية أو حزبية.
-
إطلاق حملات للتقارب الشعبي الفلسطيني الخليجي، باعتبار الشعب الفلسطيني جزء من الشعب العربي.
-
إطلاق حملات تثقيفية وترويجه للرواية الفلسطينية عبر وسائل التواصل الاجتماعي وتوجه بشكل أساسي للخليج العربي.
-
التواصل والتنسيق مع المؤثرين والمثقفين الرافضين للتطبيع في الخليج العربي ودعوتهم لتبني الموقف الفلسطيني.
-
إعادة الاعتبار لمكانة المسجد الاقصى في الثقافة العربية والخليجية بالذات بوصفة مكانا مقدسّا للمسلمين.
-
إعادة تشكيل الأجسام الممثلة للجاليات الفلسطينية في الخليج العربي.