ما إن تمّ الإعلان الشهر الماضي عن توصّل الإمارات وإسرائيل إلى اتفاق تطبيع برعاية أمريكية، حتى كانت مصر أولى الدول المباركة لهذا الاتفاق. الرئيس المصري عبدالفتّاح السيسي ثمّن في حينه في تغريدة له على تويتر جهود القائمين على هذا الاتفاق زاعماً أنّه يهدف إلى تحقيق "الازدهار والاستقرار لمنطقتنا".
ثمّ ما لبثت أن لحقت البحرين بالإمارات وعقدت اتفاق تطبيع هي الأخرى مع تل أبيب، تبعتها تصريحات أمريكية رسمية تشير إلى إمكانية أن تنضم دولة عربية ثالثة إلى هذا المسار يرجّح أن تكون السودان أو سلطنة عُمان.
ومع توالي مساعي التطبيع مع دول أخرى والتي ستستمر على ما يبدو تحت ضغط من إدارة ترامب، تتراجع أهميّة الدول التي كانت قد وقّعت اتفاقات سلام مع إسرائيل قبل عقود في ظروف مختلفة تماماً عن الظروف الحالية. الاحتفاء الإسرائيلي باتفاقات التطبيع الجديدة مع الدول الخليجية سيتبعه على الأرجح مساع نشطة لإقامة شراكات اقتصادية ومالية وأمنية قوية مع هذه الدول ـ لاسيما مع أبو ظبي ـ تفتح لها آفاقا جديدة في المنطقة وتساعد تل أبيب على توسيع نفوذها السياسي والاقتصادي والأمني في المنطقة.
بعض التحقيقات الصحفية كانت قد أشارت بالفعل إلى أنّ الإمارات تعاقدت بُعيد الإعلان عن اتفاق التطبيع مع مؤسسات مالية ومصرفية وخاصة إسرائيلية مصنّفة ضمن قائمة الأمم المتّحدة السوداء والتي تضم ١١٢ شركة على رأسها شركات إسرائيلية، قالت مفوضية حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة، إنها تقوم بأنشطة تنتهك حقوق الإنسان، وتتعلق بالمستوطنات الإسرائيلية غير الشرعيّة في الأراضي الفلسطينية.
من بين الشركات التي وردت في القائمة السوداء وتعاقدت معها مؤسسات إماراتية: بنك لئومي الذي أبرم اتفاقات مع كل من "مصرف أبوظبي الإسلامي" و"بنك أبوظبي الأول"، و"بنك الإمارات دبي الوطني"، وبنك هبوعليم الذي أبرم اتفاقاً مع "بنك الإمارات دبي الوطني"، وصندوق السينما الإسرائيلي الذي تشرف عليه وزارة الثقافة الإسرائيلية والمجلس الإسرائيلي للأفلام الذي يتربط اسمه كذلك بخروقات تتعلّق بالاستيطان.
الاحتفاء الإسرائيلي باتفاقات التطبيع الجديدة مع الدول الخليجية سيتبعه على الأرجح مساعي نشطة لإقامة شراكات اقتصادية ومالية وأمنية قوية مع هذه الدول ـ لاسيما مع أبو ظبي ـ تفتح لها آفاقا جديدة في المنطقة وتساعد تل أبيب على توسيع نفوذها السياسي والاقتصادي والأمني في المنطقة.
بموازاة ذلك، سيتم النظر بمشاريع استثمار إسرائيلية ـ خليجية تتعلّق بالتبادل التجاري وخطوط التجارة والملاحة وأنابيب نقل النفط. وفي هذا السياق بالتحديد من المنتظر أن تخطف هذه المشاريع الأضواء من الدول التي عقدت سلاماً مع إسرائيل قبل عقود وأن تنعكس بشكل سلبي عليها سياسياً واقتصادياً.
إسرائيل تحاول تجاوز عقبات الانفتاح على الأسواق العالمية نتيجة لجائحة كورونا وكذلك تخطّي فشلها في استثمار السوق المصري والأردني نظراً للرفض الشعبي الواسع للتطبيع معها في هذين البلدين من خلال علاقات اقتصادية واستثمارية أقوى مع الإمارات على أمل أن يؤدي ذلك إلى خلق مصالح تعزز من دور وقدرة إسرائيل الاقتصادية ومن اندماجها في المنطقة.
في هذا السياق بالتحديد، يبرز خط أنابيب إيلات ـ عسقلان الذي كان مخصّصاً في السابق لنقل النفط الإيراني سرّاً إلى إسرائيل ومنها عبر الناقلات إلى أوروبا إن اقتضى الأمر ذلك. هذا الخط يبلغ طوله حوالي ٢٥٤ كلم ويتألف من مسارين، واحد لنقل النفط من إيلات على البحر الأحمر لعسقلان على المتوسط بطاقة استيعابية تبلغ حوالي 1.2 مليون برميل من النفط يومياً، ومسار آخر في الاتجاه المعاكس قادر على نقل ٤٠٠ ألف ب/ي.
أهمّية هذا الأنبوب بالنسبة إلى إسرائيل هو أنّه يتفادى قناة السويس ويقصّر المسافة والتكلفة اللازمة لنقل النفط. وبهذا المعنى، فإنّه إذا ما تمّ إعادة تفعيل هذا الخط لنقل النفط الخليجي إلى إسرائيل على وقع التطبيع الجاري حالياً، فسيؤدي ذلك إلى حرمان قناة السويسي من العائدات التي كانت تحصل عيها نتيجة لمرور السفن المحملة بالنفط والمواد المختلفة من خلالها.
إنّ تفعيل خط إيلات ـ عسقلان سيؤدي إلى خسارة قناة السويس أكثر من ثلث إيراداتها. وإذا ما أضفنا حقيقة أنّ النظام المصري قام بإنفاق حوالي ٨ مليار دولار على تفريعة السويس دون جدوى اقتصادية حقيقية فإنّ الخسائر قد تكون مضاعفة.
رئيس هيئة قناة السويس الفريق أسامة ربيع كان قد علّق على هذا الموضوع على قناة مصريّة محذّراً من أنّ تسارع مثل هذه الترتيبات يشكّل تهديداً للأمن القومي المصري، قبل أن يستدرك ليقول إنّ تأثيرها محدود! قناة السويس تنقل حوالي ١٠٧ ملايين طن، مقارنة بـ ٥٥ مليون طن محتملة عبر خط "إيلات ـ عسقلان"، بمعنى أن الخط سيستحوذ على ٥١% من كميات النفط التي تعبر قناة السويس حالياً. وفقاً لهذه الحسابات، فإنّ تفعيل خط إيلات ـ عسقلان سيؤدي إلى خسارة قناة السويس أكثر من ثلث إيراداتها. وإذا ما أضفنا حقيقة أنّ النظام المصري قام بإنفاق حوالي ٨ مليارات دولار على تفريعة السويس دون جدوى اقتصادية حقيقية فإنّ الخسائر قد تكون مضاعفة.
وتعتبر قناة السويس مصدراً رئيسياً للعملة الصعبة لمصر، إذ تؤمّن حوالي 5.7 مليار دولار سنويا. الحكومة المصرية تعلم أن هناك بدائل أسرع وأقل كلفة تنافسها وأنّ تسارع التطبيع الخليجي ـ الإسرائيلي سيؤثّر سلباً عليها، ولذلك فهي تحاول أن تحد من خسائرها من خلال رفع الحسومات على بعض أنواع الناقلات والحمولات. المشكلة الأكبر أنّ موضوع خط إيلات ـ عسقلان قد يكون مجرّد رأس الجليد، إذ تسعى إسرائيل إلى إدخال السعودية في المعادلة أيضاً من خلال حث الإمارات على أن تكون الرياض جزءاً من ترتيبات نقل النفط عبر إيلات ـ عسقلان.
علاوةً على ذلك، فإن هناك مشاريع تتعلق بتكثيف التجارة البحرية وقطاع الشحن من الخليج إلى إيلات ومنها عبر البر إلى عسقلان ومن هناك إلى أوروبا بحراً. إعلان الإمارات عن مشاركة موانئ دبي العالمية في جهود الاستحواذ على إدارة ميناء حيفا تعدّ جزءاً من هذا المشروع الكبير، الأمر الذي سيأتي على الأرجح على حساب مصر والتجارة عبر قناة السويس، وقس على ذلك من مشاريع تطبيعية. المثير للسخرية في الموضوع أنّه في خضم الاحتفال بالتطبيع، يصرّح رئيس القناة بأنّ مصر لا تزال تعتمد وتراهن على العروبة لأخذ حسابات القاهرة في مثل هذه الترتيبات بعين الاعتبار.