انضمّت دولة الإمارات رسميًا إلى معسكر "السلام" مع دولة الاحتلال، وهي لم تكن يومًا في حالة حرب معها. ففي 13/8/2020، أعلن عن التوصل إلى اتفاق سلام بين أبو ظبي و"تل أبيب" برعاية أمريكية، وهو اتفاق سيتبعه اتفاقات ثنائية في قطاعات مختلفة وإنشاء سفارات متبادلة، وفقًا للبيان المشترك الأمريكي الإسرائيلي الإماراتي حول الاتفاق.
وفيما كلّف رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو رئيس هئية الأمن القومي مائير بن شبات إجراء محادثات مع الإمارات فقد أعربت الأخيرة عن رغبتها في تسريع إجراءات التطبيع، حيث قال وزير الدولة الإماراتي للشؤون الخارجية أنور قرقاش إنّ الإمارات لا تريد عملية بطيئة وتدريجية، بل إن فكرتها هي المضي قدما في هذه العملية.
وكشف السفير الأمريكي لدى دولة الاحتلال ديفيد فريدمان أن مراسم التوقيع على الاتفاق ستتمّ في البيت الأبيض في أيلول/سبتمبر القادم.
وقد جاء الإعلان عن الاتفاق خاليًا من عنصر المفاجأة إذ إنّ التطورات المتسارعة في الأعوام القليلة الماضية التي شهدها مسار التطبيع عزّزت من احتمالية أخذ العلاقات بين عدد من الدول العربية، لا سيما دول الخليج، ودولة الاحتلال إلى مستوى أكثر تقدمًا لا يمكن وصفه بالخروج من الخفاء إلى العلن نظرًا إلى أنّ التصريحات والمواقف واللقاءات والزيارات ومؤشرات التعاون كانت علنية في مجالات الأمن والرياضة والبيئة وغيرها وصولاً مؤخرًا إلى المجال الطبي والتعاون لمكافحة تفشي جائحة كورونا.
ولعلّ الأطراف الموقّعة والراعية للاتفاق كانت تحتاج إلى التوقيت المناسب للإعلان رسميًا عن هذه العلاقة، بما يخدم المصالح السياسية والشخصية للمعنيين به. فبالنسبة إلى الولايات المتحدة، يأتي الإعلان عن الاتفاق في وقت يعاني ترامب فيه تراجعًا في التأييد واحتمالات بعدم قدرته على الفوز بولاية رئاسية ثانية. فعلاوة على التداعيات التي يواجهها على المستوى الداخلي بسبب جائحة كورونا فقد لاحقه الفشل في إدارة الملفّات على المستوى الخارجي، ومن ذلك ما يتعلّق بخطّة السلام التي كشف عنها في كانون ثانٍ/يناير 2020 من دون إحراز أيّ نجاح ملموس في تنفيذ بنودها. لذلك، فهو يحتاج إلى أيّ تقدّم أو "اختراق" يمكن أن يسوّقه كإنجاز يقدّمه داخليًا على أنّه نجاح لسياسته في المنطقة، لا سيّما إذا كرّت سبحة الاتفاقيات المشابهة التي يمكن أن تساهم في خلق بيئة عربية مريحة لدولة الاحتلال.
وتتقاطع مصلحة ترامب هذه مع مصلحة الإمارات، أو المصلحة الشخصية لولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد، في مساعدته على تحقيق "إنجاز" قد يرفع أسهمه في انتخابات الرئاسة الأمريكية، لضمان استمرار التجاوب الأمريكي مع سياسات الإمارات. فوفق مقال نشرته نيويورك تايمز في حزيران/يونيو 2019، يعدّ بن زايد من الأصوات المؤثّـرة في واشنطن، وقد حثّ الولايات المتحدة على تبنّي نهجه العدواني وهو يخبر الأمريكيين بمصالحه الشخصية بطريقة تبدو نصيحة مفيدة لهم حول المنطقة.
أما نتنياهو فهو يواجه أزمة داخلية على خلفية الفشل في إدارة ملف كورونا وقضايا الفساد التي تلاحقه، والخلافات مع شريكه في الائتلاف الحكومي بني غانتس على خلفية الموازنة وعدم تمكّنه من المضيّ في مخطط الضم الذي كان وعد بتنفيذه ابتداء من أول تموز/يوليو 2020. وعليه، يأتي توقيت الإعلان عن الاتفاق الذي وصفه نتنياهو بـ "التاريخي" كمحاولة لصرف لنظر عن الفشل والعجر الذي يحكم أداءه، وقد علق صحفيون وسياسيون إسرائيليون على الاتفاق بالقول إنّه لخدمة مصالح نتنياهو الشخصية، ومن بين التعليقات ما قاله وزير الجيش السابق موشيه يعلون الذي أشار إلى أنّ الاتفاق ليس تاريخيًا بل هو محاولة من نتنياهو للإفلات من المحكمة وللتغطية على مظاهر فشله، خصوصًا في ظلّ وجود مليون عاطل من العمل وانهيار الاقتصاد وتفشي جائحة كورونا.
لكنّ ارتباط توقيت الاتفاق بالمصالح السياسية للأطراف المعنية به لا يعني أنّه خالٍ من الانعكاسات على القضية الفلسطينية. فهو يرسم بداية عهد جديد من الانفتاح العربي على دولة الاحتلال حيث صرح نتنياهو أنّ "مزيدًا من الدول ستدخل دائرة السلام معنا"، في حين قال جاريد كوشنر مستشار الرئيس ترامب، إنّ ثمة دولاً أخرى مهتمّة جدًا بالمضي قدمًا في إقامة علاقات دبلوماسية مع "إسرائيل"، مشيرًا إلى أنّ تطبيع العلاقات بين "إسرائيل" والسعودية أمر حتمي، وأنّ البلدين سيكونا قادرين عندها على القيام بأمور عظيمة كثيرة معًا. وتعزّز التصريحات التي صدرت من غير دولة عربية ترحيبًا بالاتفاق احتمالات أن يكون اتفاق الإمارات عنوان هذه المرحلة ومؤسسًا لخطوات مشابهة لن يطول الوقت قبل أن تصبح واقعًا على الأرض.
وبالنسبة إلى دولة الاحتلال، فهو يعزّز اتجاهها إلى الانقضاض على القضية الفلسطينية من داخل البيئة العربية، حيث عملت منذ سنوات وفق قاعدة التقارب من الأنظمة العربية من دون الحاجة إلى تقديم أي "تنازل" في ما عنى الفلسطينيين، سواء في ما يتعلق بحدود عام 1967 أو الاستيطان أو القدس وسواها.
ويساعد الاتفاق كذلك في تبييض صفحة الاحتلال وجرائمه، وهذا ما تعكسه الرسالة المصورة باللغة العربيّة التي وجّهها آفي ديختر، عضو الكنيست عن حزب الليكود، إلى دولة الإمارات، إلى أبو ظبي ودبي والشارقة وباقي الإمارات، يرحّب بهم في دولة الاحتلال "بيوتنا بيوتكم.. نحن بانتظاركم"، فالاتفاق يعني التنازل عن الحق العربي والفلسطيني في أرض فلسطين والقفز عن الجرائم التي ارتكبتها العصابات الصهيونية قبل أكثر من سبعة عقود، حين قتلت وشردت الفلسطينيين وأحرقت قراهم وصادرت بيوتهم وأراضيهم، لتقديم "إسرائيل" على أنّها مالكة الأرض وصاحبة البيت وتمارس اليوم كرم الضيافة حيال أصحاب الحقّ الذين طردتهم من أرضهم قبل عقود.
إذًا، يأتي هذا التوقيع عشية الذكرى الـ51 لإحراق الأقصى وفي الوقت الذي يستمر فيه حريق المسجد تهويدًا واعتداءات، وفي الوقت لا يتوقف فيه الاحتلال عن مشاريع التهويد في القدس بمباركة من ترامب الذي اعترف بالقدس عاصمة لـ "إسرائيل"، ليكافئ دولة الاحتلال على جرائمها وليقدّم لها غطاء عربيًا يسبغ الشرعية على وجودها وتستفيد منه لتنفيذ المزيد من الجرائم من دون مساءلة. أمّا محاولات تسويقه من باب أنّه أوقف مخطط الضم أو أنّه سيكون مدخلاً للعرب الراغبين في زيارة المسجد الأقصى فلا يبدو أنّها انطلت على من يراقبون المشهد والتطورات ويحسنون تمييز العدو من الصديق.