في زمنٍ مضى كان العدوّ الصهيونيّ يُرسل فرق الموت ويستهدف المثقفين الثوريين لأنه أراد أن يستهدف الفكرة الجوهرية التي تقف خلف الثورة الفلسطينية والعمل الفدائي المسلح : مشروع التحرير.
ولقد أرعبه ذاك الدور الثقافي الذي كان يقوم به المناضل " الساحر " محمد بوديا إبن الجزائر و فلسطين. هذا المسرحي الثوري الذي إغتاله جهاز الموساد يوم 28 حزيران عام 1973 في العاصمة الفرنسيّة باريس.
ويمكن القول اليوم ، دون مبالغة أن الصحفي الثائر والممثل المسرحي المبدع " بودية " هو المؤسس الحقيقي للعمل الفدائي العربي في الخارج منذ العام 1958 وما سيعرف بـ " العمل الخاص " فهو الذي أشرف بعد انتصار الثورة الجزائرية على تأسيسه مرة أخرى بعد انطلاقة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وبعد لقاءه التاريخي مع د. وديع حداد في كوبا عام 1967
وكُلّنا سَمعنا وَعرفنا عن " لائحة غولدا مائير " وكيف جَرَت عمليات إغتيال وتصفيّة عقول فلسطينيّة وعربيّة رائدة واستئنائيّة في حقول الفكر والأدب والفن والترجمة والتنظيم والمسرح والعمل الثوري الأمميّ، غير أن العدوّ ظل يقول للعالم " هذه العملية رداً على عملية اللد " أو " عملية ميونخ " أو أيّ شيء والسلام. المهم بالنسبة للعدوّ هو تحقيق الهدف و" قطف الرّؤوس الحاميّة التي لا تقبل وجود اسرائيل " كما أطلق عليهم. وكان العدوّ ، في معظم الأوقات، يعمل في صمت ولا يقول أيّ شيء.
قبل إستشهاد محمد بوديا ( واسمه الحركي أبو ضياء ) أطلق الموساد يوم 9 نيسان 1973 رصاصات غادرة وقاتلة على رأس المثقف والاكاديمي العراقي باسل الكبيسي أحد أبرز مؤسسيّ حركة القوميين العرب والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. كان الكبيسي مُناضلاً من طراز خاص ، وهو الذي جاء من عائلة عراقية ثرية وكبيرة معروفة من ناحية " كبسة " . وان حياته قصة عربية تروى.
إنتمى الكبيسي إلى فكرة الثورة والتغيير مُذ كان طفلاً حين خرج في مظاهرة، لأول مرة في حياته، مع الفلاحين الفقراء ضد استغلال الاقطاع فتمرّد على عائلته أولاً ، غير أنه كان محبوبًا في أوساط عشيرته العربية الكبيرة وسيكون له دوراً في تنظيم العشرات من ابنائها الضباط في العراق بعد تخرجه من الجامعة الاميركية في في بيروت وعودته إلى بغداد لتأسيس فرع الحركة في العراق.
وحين وضع الكبيسي كتابه ( رسالة الدكتوراة التي أنجزها في كندا وعنوانها حركة القوميين العرب ) لم يكن في حاجة إلى مصادر أو مكتبات ومراجع فكل مصادره أو جلها تقريبا من رفاقه ومن واقع تجربته الشخصية وستجدها على هذا النحو : " جلسة مع الدكتور جورج حبش " و " لقاء خاص مع د . وديع حداد " و " اجتماع قيادة الحركة يوم كذا وكذا "
كان الكبيسي لا يكتب عن الثورة بل يشارك في صناعتها. ولا يوجد شكلاً نضالياً يمكن أن يخطر على بال القاريء إلا وانخرط فيه وترجم الأفكار الثورية إلى واقع. ومثل رفيقه محمد بودية تعرض للمطاردة والملاحقة والسجن والتعذيب ..ثم الاغتيال.
الهدف الصهيوني، كما هو معلوم ،كان تجرّيف الثورة الفلسطينية من العقول الرّصينة، تجريف المؤسسة الفلسطينية من الرؤية الوطنيّة والعلميّة الشاملة، ومنع هذه العقول الفلسطينية والعربية من ترّسيخ ما يُمكن تسميته بـ " الاستراتيجية الفلسطينيّة الشاملة للتحرير " ومنعها من نقل تجربتها إلى أجيال جديدة فتأتي من بعدها وتراكم على ما سبقها من خبرات وتعزز من القدرات والقوة العربية على كل الصُعد العسكريّة والسيّاسية والثقافيّة والإعلاميّة ...وغيرها
كان الراحل الكبير د. أنيس صايغ بمثابة " الأب والمعلم الحنون الصارم " لمجموعة مميزة من الباحثين – الفدائيين - في مركز الأبحاث والتخطيط الفلسطيني في بيروت.
وحاول جهاز الموساد استهدافه أكثر من مرّة. نجح تقريباً في واحدة من تلك المحاولات . لقد أراد الدكتور أنيس صايغ ان يكرّس قانونًا واضحًا لا يقبل النقاش : يكون المثقف / الباحث الثوري في خدمة الشعب والعمل الفدائي .. أو لا يكون، فيما أراد نهج ياسر عرفات أن تكون كل المؤسّسات الفلسطينيّة في خدمة القيادة تخضع لمزاج و رؤية الزعيم ، وهكذا وقع الخلاف المعروف بينهما تماماً مثلما نشأ هذا التناقض دائمًا بين كل سُلطان جاهل وشخص حُر ، بين سياسي سلطوي جاهل وبين المثقف الثوري على مر الأزمنة والعصور.
د. أنيس صايغ لم يعلّق على جدار مكتبه صورة " الرمز القائد" وظل يعتبر دور المثقف الثوري أهم في الثورة والمجتمع من دور الزعيم التقليدي ، واستطاع صايغ ورفاقه أن يجعلوا من مركز الأبحاث والتخطيط مؤسسة عربية متميزة ومكانًا للعمل والانتاج الفكري والتوثيق والترجمة وليس مقهى للفصائل وطق الحنك.
علّق خلفه في غرفة مكتبه يافطة تحمل مقولة لرئيس الوكالة اليهودية العالمية يقول فيها " إذا أرادت اسرائيل أن تنتصر وتبقى، عليها أن تتعلم من الفلسطينيين في مركز الأبحاث الفلسطيني. " واعتبر صايغ أن هذه شهادة حقيقية للمركز ولدور الثقافة الوطنيّة الفلسطينيّة في المعركة، لأن شهادة العدوّ لها قيمة أكبر من شهادة السياسي التقليدي وهي أكبر قدراً من رضى الزعيم والمختار..
وكان الشهيد كمال عدوان يطلب من مركز التخطيط دراسة حول منطقة جغرافية في فلسطين يريد أن يعرف تضاريسها، طبيعتها ، مصادر الماء فيها ، النباتات التي تنمو في تلك المنطقة إلى آخره.. ويعدّون له دراسة علميّة وافية هدفها تطوير العمل الفدائي ونقله من حيز الارتجالية والعفوية إلى حيز التخطيط والتنظيم، ومن الخارج إلى قلب فلسطين المحتلة. والانتقال من حالات رد الفعل الى المبادرة والفعل المنظم والمؤثر...
ولذلك ، يمكن القول أن معظم الإنتاج الفكريّ الفلسطيني تحقق بين العام 1967 و 1973 وفي هذه السنوات الست التي يمكن وصفها بسنوات " الثورة " ، أما بعدها فقصة اخرى..
وما عجزت عنه " اسرائيل " ولم تقو على قطفه " غولدا " جرى طرده من منظمة التحرير فتكاملت عمليّة التجرّيف والتجويف، تجريف الوعي والفكرة والهدف ، من خارج و داخل ، هكذا أيضا إحتلت مجموعة من " السحيجة " أطلقت على نفسها اسم " العرفاتين " كل المؤسسات الفلسطينيّة وهيمنت على دفة القرار السيّاسي بالزعرنة والمال والقوة. .
كانت تعرف " اسرائيل " حجم المكاسب الكبيرة التي يمكن ان تحصل عليها على المستوى الاستراتيجي إذا تخلصت من هذه العقول الاستثنائيّة . وحين أقدمت على جريمة إغتيال القادة الثلاثة في " فردان " في 10 نيسان 1973 وقتلت في اليوم التالي باسل الكبيسي في باريس أيضاً، استطاعت خلال 24 ساعة أن تصفي مجموعة متكاملة فيها الباحث والكاتب والشاعر والاستراتيجي في ضربة واحدة. وكانت واثقة انه سيكون من الصعب على الفلسطينيين تعويضهم في فترة قصيرة ، بل كانت تعرف أيضا ان مثل هذه العمليات سوف تفتح الباب واسعاً أمام أنصاف الكتبة من العرفاتيين الذين ستجلبهم " القيادة " وتضعهم في موقع القرار!
وفي فضاء ذكرى إستشهاد غسان كنفاني وناجي العلي في هذه الأيام نستعيد ما كتبه المفكر العربي د. فضل النقيب رفيق غسان في مقدمتة الفذة والمميزة للمجلد الخامس / الدراسات السياسية لغسان كنفاني، يقول :
" " لقد كان هناك اختلاف جوهري بين استشهاد غسّان كنفاني في سنة 1972 وبين استشهاد ناجي العلي في سنة 1987 ففي الحادثة الأولى كانت أصابع الاتهام موجهة نحو اسرائيل فقط، ولقد تبيّن فيما بعد ان رئيسة الحكومة الاسرائيليّة غولدا مايسير ( مائير) قامت بنفسها بتوقيع أمر إغتيال غسان. أما الحادثة الثانية فقد كان الأمر مختلفاً اذ لم تتوجه اصابع الاتهام نحو اسرئيل فقط بل انها اكدت تورّط جهات عربيّة وربما فلسطينيّة أيضاً "
" " ومع مرور السنوات إتضح ان اغتيال كنفاني وناجي العلي كان عبارة عن راس جبل الجليد لعملية تاريخية كبرى تمثّلت فيها مصالح اسرائيل وحلفائها من الانظمة العربية واشرفت عليها مؤسسات امريكية وكان لها هدف واحد هو تحطيم " عاطفة المقاومة " في العالم العربي "
لقد خان المثقف الفلسطيني مُهمته و دوره المطلوب والحيوي في مسيرة النضال التحرري الثوري، وتحول إلى شخص يصدر " الفتاوي الوطنية لصالح السلطوي ونصّب نفسه مُدافعا عن نهج التخريب الذي يقوده محمود عباس وفريقه، كما لا يحق للمثقف النفطي ومن تحول الى بوق للمحاور ومن يدفع له أكثر أن يشرح لنا " ازمة المشروع الوطني " لأنه هو اأد تجليات هذه الازمة ..فهؤلاء هم نقيض الذين قتلتهم اسرائيل وانهم المشروع البديل للثورة الفلسطينية التي انطلقت بهدف التحرير واقامة المجتمع الديموقراطي في فلسطين على طريق وحدة العرب ومن أجل استعادة دورهم الحضاري والانساني في التاريخ..
لو عاد غسان كنفاني وانيس صايغ و كمال ناصر وعز الدين قلق ومحمود الهمشري ومحمد بو ديه وباسل الكبيسي وماجد ابو شرار وناجي العلي ونعيم خضر ورفاقهم وقلنا لهم ما فعله بنا نهج العرفاتيين لبصقوا على المرحلة وربما علينا أيضا وقادوا مظاهرة شعبية إلى مقر م ت ف .. يحرروه أو يحرقوه؟ لا فرق.!
هذا الشعب الفلسطيني المناضل خسر كل شيء إلا تمسكه بحقه التاريخي وان لديه قدرة عجيبة على الخلق والتجديد وتوليد مثل هؤلاء الابطال الميامين ( أصحاب العاطفة الكبيرة ) الذين قضوا في مسيرة الثورة ، ويستطيع إذا إراد وتوافرت عناصر الدفع الملائمة من خلق ثورته الجديدة بما يُناسب روح وحركة العصر والتاريخ ، لن يعدم الوسيلة أو الفكرة والإرادة حتى يحرق من يعترض طريقه ويقف حجر عثرة أمام مساره من أجل العودة والتحرير .. ولن يعدم الارادة ولا عود الكبريت. !