رام الله - خاص قدس الإخبارية: في منطقة ما من مدينة نابلس نهاية التسعينيات، لم يرق للعشريني كمال أبو وعر مشاهدة فتاة تتعرض لمضايقة من مجند إسرائيلي، حين امتشق رشاشه وأردى المجند قتيلا، بعد أعوام على عودة كمال وأسرته من الكويت.
بهذه القصة، يُعيد أهل بلدة قباطية جنوب جنين تداول سيرة ابنهم الأولى في العمليات الفدائية، وعلى الرغم من تشكيك بعضهم بدقّة السردية، إلا أنها سيرة تستفيق، في وقتٍ يرقد كمال فيه على أسرّة مستشفى سجن الرملة، بوضعٍ صحي خطير، مُصاباً بالسرطان و"كورونا".
وفي مشهد موازٍ داخل العزل الإنفرادي في معتقل "أوهليكدار" ، يخوض محمد أبو الرُب إضراباً مفتوحاً عن الطعام نُصرةً لكمال، مشعلاً ذاكرة قباطية قبل 17 عاماً، في الخامس والعشرين من كانون الثاني، حين حوصر الإثنان داخل منزل بالبلدة، أحاطتهم قوات "المستعربين" بمركبات مدنية تنده عبر مكبرات الصوت، وطائرة عسكرية تمهلم دقيقتين لتسليم نفسهما قبل القصف.
يتذكّر أبو محمد التفاصيل كأنها حصلت بالأمس، بعد اشتباك مسلّح دام لساعات نفذت خلالها الذخائر، ينقل لـِ "قدس الإخبارية" الحوار الذي دار بين نجله ورفيقه كمال في تلك اللحظة، حين أخذ كمال يُقنع محمد أن يسلّم نفسه كونه وحيد والديه، إلا أن محمد رفض وردّ "إما أن أستشهد معك، أو أحيى معك، لا حياة بدونك" فتراجع كمال عن قراره، وآثر الخروج برفقة محمد.
لم يعترف أي منهم خلال التحقيق معهما، وكانا حين يدخلا "محاكم" الاحتلال ويطرق "القاضي الضابط" - كما يصفه أبو محمد – على طاولة المحكمة ليقف الحضور، كانا يبقيان جالسين سخرية من المشهد. وحوكم كمال بعد 10 أشهربـ 6 مؤبدات و50 عاماً بتهمة قتل مجموعة ضباط ومستوطنين، في حين حُكم محمد بـ 33 عاماً بتهمة إصابة العديد من الصهاينة.
بعد اكتشاف إصابة كمال بسرطان الحلق العام الماضي، خضع لنحو خمسين جلسة أشعة في مستشفى رمبام بمدينة حيفا، كان خلالها ينقلُ وهو مُكبّل اليدين ومُثبّت القدمين بالسرير، وفوقه ثلاثة بنادق مُصوّبة عليه بعد كل جلسة أشعة. كان محمد يحترق على رفيقه في ذلك الوقت ويطالب إدارة السجون بنقله إلى قسمه ليقوم برعايته، ولكن دون جدوى.
من عاشرهما في الأسْر وخارجه يشهد لهما بصفات مشتركة، يقول الأسير المحرر ثامر سباعنة - من بلدة قباطية - في حديث لـِ "قدس الإخبارية" كانا مثلاً في الأخلاق والوحدة ونُصرة المظلوم دوماً، لم يتركا أي حِراك للأسرى - مهما كان التنظيم الذي يقوده - إلا وانخرطا فيه، متفانيان في الشجاعة والانتماء، وبالرغم من الصفات المشتركة، إلا أن لكل منهما صفاته المختلفة عن الآخر، فمحمد الثوري الذي لا يقبل "العوج"؛ ومن قصصه أن عُزل 4 مرّات ضرب فيها سجّانين إما بسبب موقف مسّه شخصياً أو دفاعاً عن رفاقه، وكمال هادئ الطبع والمكابر على ألمه، الذي كان يعرض مساعدته على الجميع ولا يُشعر أحداً بألمه ومرضه.
في الأشهر الأخيرة هذا العام، حين فقد كمال قدرته على الكلام بشكل كامل، بات يتواصل مع رفاقه في الأسر من خلال الكتابة فقط. وصفت هيئة شؤون الأسرى والمحررين حالته في الزيارات القليلة، أنها الأخطر من بين 10 حالات مصابة بمرض السرطان، ضمن ما يقارب 700 أسير مريض تُمارس بحقهم سياسة الإهمال الطبي.
اعتاد كمال خلال زياراته للوطن قبل عودة أسرته من الكويت مع قيام السلطة منصف التسعينيات، أن يقصد قبره جده الشهيد مباشرةً، وفي كل يوم يزور القبر ويقرأ سورة الفاتحة على روحه، كان متأثراً بقصة جده الذي امتشق بندقية جاره مع حرب "النكبة" وانطلق يواجه القوات الصهيونية في منقطة "المزار" شمال جنين، واستشهد مقاتلاً، يروي شقيقه أمين لـِ "قدس الإخبارية" أنه كان مثله الأعلى.
كمالٌ لا يرضى لفلسطين سوى الكمال
وعن عمق انتمائه الوطني الذي بدأ مبكراً، يصف أمين مدهوشاً قصةً عن كمال عندما كان في مدرسة في الكويت يستمع إلى حصة الدين، حين كان يروي معلّم المادة حديثاً "في أحداث آخر الزمان ينتشر الفساد في أرض فلسطين"، فانتفض كمال رافضاً يقول " أرض فلسطين طاهرة، ولا يليق بها هذا القول".
يستذكر ثامر حين كان معتقلاً في سجن شُطّا (2013) حيث كان كمال ومحمد يقبعان، حين قصده كمال مباشِراً في حديثه "هل شاهدت برنامج (كشف المستور) المتلفز ليلة أمس؟" ، وكانت الحلقة تتكلم عن الإزعاج في مدينة رام الله، فتناولت الحلقة مشاهد من "كازينوهات" و"صالات الرقص" وسأله إن كان ذلك حقيقياً؟ فصُعق من إجابته بأن ذلك منتشر في أغلب محافظات الضفة، فتمتم قائلاً "أمن أجل هذا قدمنا زهرة شبابنا فداءً للوطن؟ ".
منذ عودة كمال للوطن منتصف التسعينيات، زار قبر جده الشهيد في جنين، واِلتحق بقوات الـ17 بمدينة نابلس، ميمماً وجهه شطرالوطن ومقاومة الاحتلال. والتقى بمحمد الذي كان مطارداً بعد قيامه بعملية تفجير عن بعد في مستوطنة "شاكيد" وهو لا يزال ابن 18 عاماً، و أضحى رفيقه الأزلي.
في هذه الأثناء، يواجه كمال خطر الموت بعد إصابته بكورونا ومن قبلها السرطان، ويواجه محمد بإضرابه عن الطعام خطر الفراق، بالوفاء والانتماء.