* ينشر بالتعاون مع شبكة متراس
بعد ثلاثة أعوامٍ كاملة مُنِع فيها من الحديث إلى النّاس والإعلام، قضاها ما بين الحبس المنزليّ، وبين العزل الانفراديّ في سجون الاحتلال الإسرائيلي، تحدّث الشيخ رائد صلاح يوم الخميس الماضي (16.07.2020) لأوّل مرة. أكدّ في خطابه على ما قضى حياتَه يعملُ لأجله ويدفعُ ثمناً له: "المسجد الأقصى"، و"ثوابتنا الإسلاميّة والعروبيّة والفلسطينيّة التي ستنتصر في هذه المعركة".
ألقى الشيخ خطابه هذا أمام المحكمة المركزيّة الإسرائيليّة في حيفا، بعد أن عُقِدت فيها آخر جلسةٍ ضمن الملف الذي يُحاكم عليه، "ملف الثوابت". رُفِضَ في هذه الجلسة الأخيرة الاستئنافُ الذي قُدّم ضدّ الحكم الصادر بحقّه، وعليه يبقى الحكم كما صدر في فبراير/شباط الماضي: 28 شهراً.1
ثوابت لا تتبدّل..
تتغيّر أسماءُ الملفات التي يُطلقها الشيخُ صلاح أو المدافعون عنه على الدعاوى الإسرائيليّة التي رُفِعت ضدّه على مدار حياته، وتتنوع التفاصيلُ إلا أنّها تبقى تدور في سياقٍ واحد: نشاط الشيخ السياسيّ والمجتمعيّ حول القدس والمسجد الأقصى ومختلف الحقوق الفلسطينيّة في الداخل، والضفة وغزّة. تعتبره "إسرائيل" تحريضاً على "الإرهاب" و"العنف"، ويعتبره الشيخ ثابتاً من ثوابته التي يؤمن ويعمل لها، ومن هنا جاء الاسم.
يعود تاريخ "ملف الثوابت" الأخير إلى أغسطس/آب 2017. حينها اعتُـقِـل الشيخ صلاح ووُجهَت له تهمتا "التحريض على العنف"، و"تأييد جماعة محظورة"، والمقصود هنا الحركة الإسلاميّة التي حظرتها "إسرائيل" قبل ذلك بعامين.
يرتبط هذا الملف بالملاحقة الإسرائيليّة المستمرة للحركة الإسلاميّة الشّمالية في أراضي الـ48، واستهداف مؤسساتها وأنشطتها، وكذلك بالملاحقة المتكررة للشيخ ولنشاطه فيما يتعلق بالحفاظ على الأقصى والرباط فيه. وبشكلٍ عينيّ، ترتبط التهم التي وُجِهت للشيخ بتصريحاته بعد عملية إطلاق النّار التي نفّذها أبناء مدينته، محمد ومحمد ومحمد جبارين، في 14 يوليو/ تموز 2017، والتي قُتِل فيها شرطيان إسرائيليان.
بعد العملية بأيام قليلة ظهر الشيخ صلاح على الإعلام مُتحدثاً عن الأقصى والمخاطر المحدقة به وضرورة الدفاع عنه، ثمّ لم يغب عن خيمة عزاء الشّهداء. وفي الأسبوعين اللذين أعقبا العملية، ترحّم الشيخ صلاح على الشهداء الثلاثة في خطبتي جمعة ألقاهما، كما فعل مرةً ثالثةً في خطبة ألقاها خلال جنازتهم في 28 يوليو/تموز. كان محور حديثه في كلّ تلك الخطب التأكيد على الحق العربيّ الإسلاميّ بالمسجد الأقصى، والتأكيد على ضرورة الدفاع عنه، والإشادة باعتصام المقدسيين على بواباته.
النبش عن "تهمة" في خطبة الجمعة
من هذه الخطب اقتبست النيابة الإسرائيليّة ما اعتبرتهُ تشجيعاً ودعماً لـتنفيذ "أعمال إرهابيّة"، ومنها قول الشيخ: ".. تحية لكل النساء والرجال، المحررِّين، الأحرار، الذين لم يتوقفوا منذ 8 أيام عن حماية هذه الثغرة.. مرددين: بالروح بالدم نفديك يا أقصى، ..يواجهون الاحتلال الإسرائيلي،.. لا يخافوا أن يصابوا، أن يعتقلوا…". كما اقتبست لائحةُ الاتهام من خطبة الشيخ التي ألقاها في الجنازة ما تعتبره "تحريضاً"، وهو قوله: "أدعو الله أن يتقبل جميع شهداء المسجد الأقصى اليوم..".
كانت الجنّازة للشهداء الثلاثة قد أثارت غضب المستويات الأمنيّة في دولة الاحتلال بعد أن شارك فيها عشرات الآلاف من المُشيعين، واقتُبِست في حينه الهتافات الوطنيّة التي رُدّدت فيها للإشارة إلى "خطورتها". وفي الوقت نفسه، كان موقف الشّيخ صلاح في خطبه وتصريحاته جريئاً (وهو ليس غريباً عنه)، إذا ما قورن بـ"تردد" غيره من قيادات الداخل الفلسطينيّ، وانتكاسة خطاب بعضهم بين الإدانة أو الصمت. كان ذلك الموقف من الشيخ - على بداهته - مستحقاً للتأمل في مسيرة هذا الرجل الذي لم يكن قد مضى على خروجه من السجن في حينها سوى 7 أشهر، والذي لم يتراجع عن نصرة الأقصى وفلسطين عامة، ومُستحقاً لمزيدٍ من الملاحقة و"العقاب" في نظر سلطات الاحتلال الإسرائيلي.
سعياً لإخماد هذا الصوت طالبت النيابةُ الإسرائيليّة بإيقاع أقصى عقوبةٍ يمكن الحكم بها في تهم التحريض حسب القانون الإسرائيليّ، وهي تتراوح بين عامين ونصف إلى 4 أعوام ونصف. في تبرير ذلك، أشارت إلى أنّه سبق للشيخ صلاح أن حُوكِم على قضايا مشابهة، تتعلق بالتحريض على "الإرهاب"، ولكن يبدو أنه "لم يرتدع"، لذلك لا بدّ من "تشديد العقوبة".
كما اعتبرت النيابة الإسرائيليّة أنّ هذه القضية ذات "خطورة خاصّة"، لعدة عوامل منها: شخصية الشيخ المعروفة والبارزة وما لديها من قوّة تأثير على النّاس، ولأنّ تصريحاته جاءت في فترة "حساسة أمنيّاً"، بالذات بعد عملية إطلاق نار نفذها فلسطينيون من الداخل، واعتبار كلامه -بحسب المخابرات الإسرائيليّة- مُحرضاً لآخرين ليقوموا بالأمر نفسه. تبنت المحكمة مختلف هذه الادعاءات، لكنها اكتفت في قرارها بالحدّ الأدنى من هذه "العقوبة"، 28 شهراً، أي عامين و4 شهور.
تاريخ من النشاط والملاحقة
ليست هذه المرة الأولى، فقد أمضى الشيخ خلال سنوات نشاطه وعمله الدعويّ والسياسيّ أحكاماً إسرائيلية عديدة بالسجن، يصل مجموعها إلى ما يقارب 6 سنوات. وفي حال لم يكن في السّجن، فإنّ قرارات الشرطة الإسرائيليّة بإبعاده عن القدس والأقصى لشهور طويلة، أو بمنعه من السّفر خارج فلسطين، أو استدعائه للتحقيق، لم تفارقه، وبالأخصّ في العقدين الأخيرين.
عدا عن اعتقاله الأول لستة أشهر عام 1981 ضمن ملف "أسرة الجهاد"، فقد اعتقل الشيخ في أوج الانتفاضة الثانيّة، في قضية عُرفت بـ"رهائن الأقصى". كان ذلك في 2003 تحديداً، وقضى في السجن ما يقارب عامين بتهمة تلقي أموال من جهات عربيّة وإسلاميّة "محظورة"، وتقديم مساعدات عينية وماليّة، من خلال لجان الزكاة لأهالي الضّفة والقطاع، في الوقت الذي ساءت فيه الظروف الاقتصاديّة بفعل الاجتياحات الاسرائيلية. وفي العام 2010، اعتقل الشيخ رائد من سفينة "مرمرة" التي كانت في طريقها لمحاولة فك الحصار عن قطاع غزّة.
وفي العام 2016، اعتقل الشيخ صلاح وقضى 9 أشهر بتهمة "التحريض على العنف"، في ملف "خطبة وادي الجوز". كان الشيخ صلاح قد خطب في العام 2007 خطبة جمعة على سطح منزل عائلة الحلواني في حيّ وادي الجوز، على بعد أمتارٍ من المسجد الأقصى. في هذا الملف اتهمته النيابة بالتحريض لقوله: "اللحظات الأجمل لدينا هي اللحظة التي نلقى فيها الله شهداء في المسجد الأقصى". عدا عن ملاحقته من الشرطة البريطانيّة في لندن، والتنكيل به مرات ومرات كما جرى في اعتقاله الأخير وإصرار إدارة السجون على عزله انفراديّاً.
الإفراج شريطة "التعايش"
يأتي استهداف الشيخ صلاح ضمن خطوات استهداف الاهتمام والعمل لأجل نصرة القدس عامةً، والمسجد الأقصى خاصّة، وكذلك ضمن جهود إخماد ما تبقى من نشاط للحركة الإسلامية بعد حظرها. إلا أنّه كذلك يُلقي الضوء على محاولة إسكات صوتٍ فلسطينيٍّ وطنيٍّ من أراضي الـ1948 وعزله.
هذا الاستهداف لا يقف عند حدود محاكمة أقوالٍ تُشجِّع -بحسبهم- على "الإرهاب"، إنّما هو كذلك محاولة لخنق وردع ما يُمثِّله هذا الشخص من خطاب، ونبذه في سياق أوسع يذهب فيه قادة آخرون للتعزية بالجنود القتلى، أو يسارعون إلى إصدار بيانات الإدانة باللغتين العبريّة أو العربيّة.
وعلى مستوى العمل في أراضي الـ48 لم يتقوقع الشيخ داخل خطاب "الأقلية العربيّة في إسرائيل"، وطالما ركّز على رفض الاندماج في المؤسسات الإسرائيليّة، وعلى رأسها الـ"كنيست". وحاول - بغض النظر عن مدى نجاح التجربة إلى نهايتها- بناء مؤسسات فلسطينيّة بديلة تسدّ احتياجات الناس وتقدم لهم خدمات اجتماعيّة وصحيّة وتعليميّة بعيداً عن المؤسسات الإسرائيلية.2
وعندما روّج لفكرته عن المجتمع العصاميّ في الداخل الفلسطينيّ، نظر إليه كجزءٍ من الأمة العربيّة والإسلاميّة. هكذا مثلاً جاب دول العالم العربيّ والغربيّ يربط مؤسسات الحركة الإسلاميّة ونشاطاتها بمؤسسات إسلاميّة وعربيّة، ومُحاضراً ومُنبهاً لما تتعرض له القضية الفلسطينيّة والمسجد الأقصى والقدس خاصة من تهديدات.
وكانت سلطات الاحتلال تُساوِمُه في كثير من مرات اعتقاله على ترك هذا الخطاب، وتبني خطاب العمل السياسيّ تحت مظلة الـ"كنيست"، مقابل وقف ملاحقته والتضييق عليه. في كتابه الذي دوّن فيه مذكراته، ذكر الشيخ صلاح أنه عندما اعتقل عام 2003، عرضت عليه المخابرات الإسرائيلية أن تفتح معه "حواراً" يُفضي إلى الإفراج عنه وعن قيادات أخرى من الحركة الإسلاميّة، مقابل أن "نعلن استعدادنا لخوض انتخابات الكنيست، والثاني أن نتوقف عن دورنا في المسجد الأقصى، والثالث أن أكتب مقالات تقرّ بالسيادة الإسرائيلية وتدعو إلى التعايش".3
تكررت تلك الطلبات عام 2017، حسبما يذكر عمر خمايسي، محامي الدفاع عن الشيخ. فحسب خمايسي: وقبل الإفراج عن الشيخ بـ3 أيام في مطلع 2017، جلس معـه ممثلون عن المخابرات الإسرائيلية. كان العرض مرةً أخرى: تجريب مسار "العمل لأجل مجتمعه من خلال الـكنيست"، وهو ما رفضه مراراً.
كلّ تلك الملاحقات، ومحاولات المساومة، لم تفت من عضد الشيخ. في الوقت الذي "ارتبك" فيه البعض خرج يؤدي واجبه الديني والوطنيّ مُعزّياً وخطيباً ومباركاً للمرابطين على بوابات الأقصى. وبعد أن امتدت مداولات ملفه الأخير لـ3 سنوات، خرج على الإعلام يؤكد على ذات المبادئ، ويوصي الناس بعدم الركون إلى الضعف والدفاع عن قضاياهم، مُستصغراً التضحية التي يُقدّمها بتكرار دخوله السّجن.
في الختام، يتزامن دخول الشيخ صلاح لسجون الاحتلال مع مرور5 أعوام على حظر الحركة الإسلاميّة من قبل "إسرائيل". وهي اليوم ما زالت تواجه سؤالاً وتحديّاً جديّاً في استمراريّة عملها وتجدد نشاطها وشكله وخطابه، خاصةً أنها لم تثابر بعد الحظر على تحرير مساحاتٍ اجتماعيّة وسياسيّة جديدة للعمل. بل عادت إلى دائرة "التأكيد على العمل بشكل قانونيّ" من خلال تأسيس "حزب الوفاء والإصلاح"، ودون أن تظهر إلى اليوم بوادر واضحة لنهوض هذه التجربة من جديد بعد ما وُجِّه لها من ضربات.