شبكة قدس الإخبارية

وليد دقَّة: "دِقْ قَوِّي الدَّقّ وَعِّيْ كلّ البشر"

25
عبد الرحيم الشيخ

ارتبطتْ صناعةُ العود في الثقافة العربيّة بمرويّاتٍ أسطوريّةٍ بديعة. لكنّ هذه المقالة لا تسعى إلى دحض أيٍّ منها، بل إلى إضافة واحدة إلى قائمتها القصيرة عبر الإجابة عن سؤال: كيف تمكَّن الأسير وليد دقة، من صنع عُودٍ في السجن الصهيونيّ ليكون آلةَ أملٍ وموسيقى في آنٍ معًا؟

في التراث العربيّ، ارتبطتْ قصّةُ صناعة العُود الأوّل باليأس أكثرَ من ارتباطها بالأمل، إذ تُنسَب إلى"لامك،" أحدِ أحفادِ آدم المتأخّرين، صناعةُ أوّل عودٍ في التاريخ. وتفيد الحكاية أنّه بعد فقدانه الأملَ في الإنجاب (وقد تزوَّج عددًا كبيرًا من النساء)، وَلدتْ له جاريتُه "يَمّ" قبل وفاته بعشر سنوات طفلًا، أغفلت المصادرُ اسمَه، ففرِحَ به، لكنّه لم يعمِّرْ إلّا خمسَ سنوات:

"[فـ] جزع عليه جزعًا شديدًا، فأخذه وعلَّقه على شجرة، وقال: لا تذهبُ صورتُه عن عيني حتى يتقطّعَ أشلاءً أو أموتَ. فجعلَ لحمُه يقع عن عظامه، حتّى بقيت الفخذُ بالساق والقدم والأصابع. فأخذ عودًا فشقَّه، ورقَّقه، وجعل يؤلِّف بعضَه على بعض: فجعل صدرَه على صورة الفخذ، والعنقَ على صورة الساق، والإبريقَ على قدر القدم، والملاوي كالأصابع، وعلَّق عليه أوتارًا كالعروق. ثم جعل يضرب به ويبكي وينوح حتى عَمِيَ. فكان [أيْ لامك] أوّلَ مَن ناح، وسمَّى [نوعَ الحطب أو الخشب] الذي اتّخذَ[ه]: عُودًا، لأنّه اتُّخِذَ من عود.

وليد وسناء تمكّنا من إنجاب طفلتهما "ميلاد" عبر نطفةٍ محرَّرة

لم يُتَحْ للأسير وليد دقَّة الزواجُ بعشرات النساء مثل "لامك." لكنّه تزوّج "على الورق" في العام 1999، بعد أن تعرَّف إلى المترجمة والمناضلة، ابنةِ اللدّ، سناء سلامة. بعد عقد القران في ظروفٍ بالغةِ التعقيد في سجن عسقلان، رفضت السلطاتُ الصهيونيّةُ منحَ الزوجيْن فرصةَ التواصل لإنجاب طفل. واستمرّ نضالُهما القانونيّ، من دون أن يفضيَ إلى نتيجةٍ سعيدة، وذلك بحجَّة "تشكيل خطرٍ على أمن الدولة." إلى أن تمكَّنا من إنجاب طفلتهما "ميلاد" عبر نطفةٍ محرَّرة، في 3 شباط (فبراير) 2020. ولعلَّ هذه القصة المكثَّفة لزواج وليد وسناء وإنجاب ميلاد، وهي تَشْغل فصلًا كاملًا في مشروعي البحثيّ عن الأسير دقَّة، تَصْلح مدخلًا إلى "قصَّة العُود،" إذ بقيتْ طقوسُ "حفل الزفاف" و"الإنجاب" ملازمةً له طوال فترة الأسْر الممتدّة حتى اللحظة.

في العام 2011، وفي أوج أجواء الترقُّب التي أحاطت بعدم تحرير "أسرى ما قَبل أوسلو" من أبناء الحركة الوطنيّة في فلسطين المحتلّة عام 1948 في صفقة تبادل الأسرى المعروفة بـ "صفقة وفاء الأحرار" أو "صفقة شاليط،" انتقل وليد دقَّة إلى قسمٍ آخر في سجن جلبوع، الواقعِ في غور بيسان شمال فلسطين المحتلّة. هناك، التقى الموسيقيّ فِداء الشاعر، من قرية مجدل شمس في الجولان السوريّ المحتلّ:

"شُفتُه مزعوج. سألتُه: ’مالَكْ؟‘ وهو كان دارسْ في معهد موسيقى في سوريا، وأنهى أربع سنين، ودرَس كمان سنة عند نصير شمّة. قال إنه راح ع بغاتس [أيْ: قدَّم التماسًا] عشان يدخِّل عُود من خارج السجن، ورفضته المحكمة الصهيونيّة. فقلت له: ’في عُود... بنعمل عُود!‘

الورشة: عْمِلنا عود، طِلِعْ غيتار!

لم تكن مهمَّةُ صنع العُود يسيرةً في ظلّ التضييق الصهيونيّ الفاشيّ على الأسرى. لكنْ لم تصاحبْها أجواءُ الحزن والقنوط، ولا شبحيَّةُ الموت والفقد كما في قصَّة "لامك،" بل كانت حكايةَ فرحٍ وأمل. فبعد أن سأل وليد فداء الشاعر عمّا يتوفّر من الموادّ اللازمة لصناعة العُود، فوجئ بأنْ لا وجودَ إلّا للأوتار التي هُرِّبتْ عبر بنطلوناتٍ طلبها الأسرى من خارج السجن. ثم بدأت الصناعةُ، بحضورِ فداء، والأسير صلاح الحمُّوري، الذي كان في الغرفة نفسِها:

"عملْنا مخطَّط ورسمناه. سألتُه عن مقاييس العُود. وجِبْنَا مكانِس خشب، ونجَّرتهن زيّ زناد. وكان واحد من الشباب يشتغل مع الحدّاد اللي في السجن، وسرق ورق كزاز من الورشة اللي في السجن. وعملتْ إشي زيّ السكّين من غطاة إبريق، ونجَّرْنا العود، وبردخناه [أيْ شذَّبناه]. وعملت من المكانس ذراع، ونجَّرناها، وحفرناها. ودخَّلت معالق خشب تَباع الكنتينة [دكَّانة الأسرى]، ونجَّرت مفاتيح العُود من معالق الخشب. وغطِّيت الوجه بنوع ’فينير‘ [خشب رقيق] أطلعناها من خشب ألواح ’الديكت‘ التي تحت الفرشة. وهلّا بدنا نعمل الجسم. منشان يمْسك الجسم: حلِّيت برغي طويل من خشب المكتبة، ومن علبة ’شَيْشْ بَيْشْ‘ [طاولة زهر] قديمة، قبل أوسلو والله العليم، زيّ الأسرى هيك عتيقة! وعملت زيّ العلبة، وربطتها ببعض، فصارت صندوق مسكَّر، وربطت الزناد فيها. ومن مشاتيح [قواعد] الخشب، للبضاعة اللي بجيبوا فيها الخُضرا، أخذت المكعَّب. ركَّبنا الأوتار، وعزف الشابّ، فطلع معنا غيتار! فقلت له: ’شو المطلوب؟‘ فردِّينا فتحنا العلبة، وحطِّينا ’فينير‘ في الزوايا، وزبَّطنا الأمور، فطلع معنا عُود!"

بعد انتهاء هذه الأوديسّة التقنيّة، والكدِّ والمخاطرة في "تهريب" الموادّ اللازمة لصناعة العُود و"سرقتها" و"تحويرها،" جاء وقتُ العزف؛ فللإعداد وقت، و"للبكاء وقت، وللضحك وقت، وللنَّوْح وقت، وللرقص وقت." وإذ بالآلة الأسطورية، التي تحوَّلتْ بقدرة قادرَيْن من غيتار إلى عود، تُبدِّل المزاجَ العامَّ في السجن. يقول وليد دقَّة:

"كنت مشرِّط ع فداء إنه بعملُّه عُود، بَسْ بيعلّمني العزف عليه. وهو عمل عيد ميلاد لحفيد أحمد أبو جابر (أسير من بدو النقب، ومن سكان كفر قاسم، ومحكوم بالسجن المؤبَّد، أضيفت له عشر سنوات)، وعمل أغنية من كتابة أبو جابر؛ شعر بدويّ يعني، ولحَّنها فداء. وأطْلَعْنَا الأغنية في تسجيل صوتي. وبعدين عبَّر نوتات، وعلَّمني ع العُود، وصار عندي إدمان تدريب على العزف، وصرت أعمل تمارين، وأعزف مطلع ’أنت عمري‘ لأمّ كلثوم. وتدرّبت عَ عزف أغنية لسيّد مكّاوي. وأنا مش عازف لأنّه ’كلتا يديَّ يسار!‘ وهذا كلُّه كان قبل تبادل شاليط. بَسْ بقي العُود لبَعد التبادل، وكان هذا إشي مهمّ. وكنّا كلّ يوم بعد المغرب نسمع عُود، ونطفي التلفزيون، وصاروا الشباب يسمعوا، وطقوس عملتْ جوّ جديد عند الشباب. وتغيّر جوّ الغرفة".

لم تدم فرحةُ العُود طويلًا، بل كان مصيرُه مأساويًّا، وذاك بسبب "إهمال" أحد الأسرى في نقله، وملاحظةِ سجّانٍ صهيونيٍّ له:

"في ليلة من الليالي، بدنا ننقله من طرف لطرف في الغرفة. في شابّ استعجل وهو بنْقُل العُود من سرير لسرير، فَشَافُه السوهير [السجَّان]، وإجا استلبسْنا وقال: ’عندكم غيتارة؟‘ فأنكرْنا، وكافحناه [أيْ جادلناه] إنّه ما في غيتارة وهو بتخيَّل. وسألتُه: ’إنت بتحبّ الموسيقى؟‘ فقال: ’آه.‘ فقلت له: ’إنت بتحبّ الغيتارة؟‘ قال: ’آه.‘ قلتُ له: ’طيّب إحكي لي من الأوّل... عشان هيك تخيَّلت غيتارة!‘ ما اقتنع، وقلّي: ’إنت بدَّك تِهْبل ربِّي؟!‘ المهمّ، هو أصرّ وعمل قصّة، وجابوا التفتيش، وهذا العُود فشْ مجال نخبِّيه، فشْ حدّ يبلعه، زيّ التلفون. وصار حزن كبير عند الشباب لمّا أخذوا العود... جنازة شهيد طلعتْ من الغرفة إنْ غابت عنّك! وحَطُّوه في مكتب المدير، وجابوا أمّة لا إله إلّا الله تتفرّج عليه! واستدعوني يسألوني من وين حصلنا ع الموادّ اللي صنعنا منها العُود؟ وبعدين صرنا نشْرح لهم إنّ الأوتار خيطان مَسابِح، وهيك! طبعًا ما صدَّقوا وقالوا إنّها مش خيطان مسابح. حطُّوه وصوَّروه، ووَرْجُونا صوره ع تلفوناتهم. وصاروا يتناقلوه في الشاباص [مصلحة السجون]".

المنتوج: عملْنا مقالة، طلعتْ مسرحيّة!

ساد المرحُ أجواءَ المكالمة الهاتفيّة، ووصف فيها وليد دقَّة أوديسّةَ العُود ونشوةَ الأسرى القصيرةَ بآلتهم الموسيقيّة. ولم يحُلْ سلوكُ السجّان الساديُّ في خطف تلك الفرحة، ولا تحويلُ إدارة السجن القصّةَ إلى "مغامرةٍ إثنوغرافيّة" تدرَّس في الدورات الأكاديميّة لمنظومتهم الرقابيّة، دون استمرار هذه القصّة في شكلٍ فنّيٍّ آخر. فقبل معاقبة المشاركين في "الجريمة الموسيقيّة،" وعزلِ بعضهم، وحتى تحرُّرِ الأسير الموسيقيّ فداء الشاعر، تمّ إنجازُ عملٍ فنّيّ آخر.

مسرحيّة "حكايةُ المنسيّين في الزمن الموازي" لوليد دقّة (سجن جلبوع)

 

فالمعروف عن دقّة تعدُّدُ الأنواع الإبداعيّة التي يتوسَّلها لإيصال صوته وصوتِ الأسرى الفلسطينيين إلى خارج أسوار السجون الصهيونيّة. ونتيجةً لتأثّره بأسرى حزب العمّال الكردستانيّ الذي أنتجوا سينما داخل السجن، وبالمسرحيّ الفلسطينيّ الراحل فرانسوا أبو سالم (1951-2011)، فقد بدأ كتابةَ مسرحيّةٍ غنائيّة، عنوانُها: حكايةُ المنسيّين في الزمن الموازي، واعتمد فيها على أعماله الإبداعيّة المختلفة السابقة.

و"الزمن الموازي" مفهومٌ مفتاحيٌّ لدى وليد دقَّة، يصوِّر الجوانبَ الفلسفيّةَ (الأنطولوجيّة) التي يحياها الأسرى الفلسطينيّون في السجون الصهيونيّة، في مقابل "الزمن الاجتماعيّ" الذي يعيشه مَن هم خارج السجن. ولذا، فقد احتلّ المفهومُ مكانةً رفيعةً في فكره، إلى حدّ أنّ مقالة "الزمن الموازي" التي كُتبتْ سنة 2005 في سجن جلبوع تكرّرتْ، أو بالأحرى تناسختْ، في المسرحيّة الغنائيّة، حكاية المنسيّين في الزمن الموازي، التي كُتبت سنة 2011 في سجن جلبوع أيضًا، وظهرتْ على شكل مسرحيّة الزمن الموازي، من إنتاج مسرح الميدان في حيفا سنة 2014، وذلك بالتشاور مع وليد دقَّة، الذي كان حينها في سجن هداريم (الواقع بين مدينة طولكوم المحتلّة وأمّ خالد، التي بُنيتْ على أنقاضها مستعمرةُ نتانيا).

المسرحيّة، التي رافقتْ عمليّةُ كتابتها وجودَ العُود قبل مصادرته، تناقش قضايا الأسرى اليوميّة بمسحةٍ ميلانكوليّة تُلاشي الفروقَ بين معاناة الأسرى الجُدد وحكمةِ الأسرى القدامى، وتصهرُهما معًا في بوتقة "الزمن الموازي،" من دون إغفال التوْق إلى ما كان وما سيكون في "الزمن الاجتماعيّ." وبذا، تعمل المسرحيّة، بكلِّ ما تختزنُه من نقدٍ سياسيّ وثقافيّ واجتماعيّ، قادمٍ من "فم الوحش" في السجن الصهيونيّ، على "تطبيع الألم" و"تطويعِ الأمل." فالمسرحيّة، وإنْ كان الزمنُ السياسيُّ لكتابتها هو بُعيْدَ "انتهاء" انتفاضة الأقصى، وبالتحديد في الأعوام 2005-2011، فإنّ زمنَها الأنطولوجيّ دائريّ، يتناوب فيه ستةُ رواةٍ على قول آلامِ الأسرى وآمالهم: من فضح سياسات سلطات الاحتلال الصهيونيّة تجاه الأسرى، مرورًا بنقد السياسات الفلسطينيّة التي لم تقُدْ إلى تحريرهم، وانتهاءً بنقدِ ما أنتجتْه السياستان من جحيمٍ يبدو سرمديًّا داخل السجون.

 

مسرحية "الزمن الموازي"، مسرح الميدان، حيفا

خلال إلقاء دقَّة محاضرةً في سجن هداريم، بحضور القائد الوطنيّ مروان البرغوثي، تلقَّى رسالةً من المسرحيّ بشّار مرقص، من بلدة كفر ياسيف الجليليّة، يطلب فيها استثمارَ سيناريو المسرحيّة الغنائيّة لإنتاج مسرحيّة بعنوان: الزمن الموازي. وافق دقَّة على المقترح. وبعد تواصلٍ دام قرابة تسعة أشهر، أُنجِز عملٌ مسرحيٌّ فيه تحويراتٌ مهمّةٌ على النصّ الأصليّ، بحيث يركِّز على قصّة دقَّة وزوجته سناء والحلم بطفلتهما ميلاد؛ كما احتلّت "قصّةُ العُود" مكانةً خاصّةً في المسرحيّة التي راوحتْ بين الكوميديا والعبث. وبعد أقلّ من سنة، عُرضت المسرحيّةُ على خشبة "مسرح الميدان" في حيفا، ومسارحَ عديدةٍ في جغرافيّات فلسطين التاريخيّة المحتلّة. وفي العام 2015، أثارت المسرحيّةُ جدلًا هائلًا في الأوساط الصهيونيّة، أفضى إلى قطع الدعم عن "مسرح الميدان" بدعوى أنّ المسرحيّة تمجِّد "إرهابيًّا" وتحيل حياتَه إلى نموذجٍ يُحتذى.

الأثر: حلمْنا بطفلة، طلعتْ ميلاد!

في المشهد الأخير من المسرحيّة، وبعد وصلة غناءٍ ساخطة على السياسات العربيّة والفلسطينيّة، يكتب وليد دقَّة مقطعًا أخيرًا يحرَّض فيه مَن هم في "زمن الراهن" الموازي على الأمل، ويحذِّر مَن هم خارجه في "زمن المستقبل" الاجتماعيّ، وذلك لتحفيزهم على كسر جدران الصمت لئلّا يكونوا جلّادي أنفسهم. وهذا هو أيضًا خلاصةُ ما جاء في روايته الموجَّهة إلى اليافعين، حكاية سرِّ الزيت، في العام 2018:

"حكايتُنا لم تنتهِ. لكلّ الحكايات بدايةٌ ونهاية، إلّا حكايتنا؛ لم نَكْتُبْ لها نهايةً بعد. فحين يتحوَّل وطنٌ بكامله سجنًا، ويكتفي الناسُ بالمشاهدة، نخشى أن نصبح فرجةً وصندوقَ عجبٍ يكرِّر نفسَه، ويغدو المشاهدون زنازينَ متنقّلةً حتى لو اعتقدوا أنّهم أحرار. فحذارِ أن تصبحوا أنتم زنازينَ متنقّلة."

بهذا التحريض الجماليّ، يُنهي وليد دقَّة مسرحيّتَه، ويختتم الأسرى أغانيَهم الزرقاء، بعد أن تَحرّر مَن تَحرّر، واستُشهد من استُشهد، وبقي في الأسر مَن بقي برسم التحرّر أو الشهادة. والغناء، كما علّمنا محمود درويش،

"لا يَهْزم الموتَ في ساعة اللقاء، لكنّه يُرْجِئه؛ يُرْجِئه إلى وقتٍ ضروريٍّ لاختبار جدوى الغناء في حفلةٍ طويلةٍ، إلى أن تكتملَ الأغنية، ويقعَ المغنِّي في قبضةِ قنّاصِه الواقفِ خلف الباب. وقد لا ينتبه أحدٌ إلى موت المغنّي، ما دامت الأغنيةُ قد صارت جماعيّةً، يغنّيها الساهرون."

لم يمت المغنّي وليد دقَّة، بل دجَّن "المستحيلَ" ليصير ممكنًا: فأحال - وزوجتَه سناء - "ميلاد/الحلم" إلى "ميلاد/الطفلة"؛ وكَتب لها ثلاثيّةَ سرّ الزَّيت وسرّ السَّيف وسرّ الطَّيف حتى قبل أن تولد؛ وأَنتج فكرًا وشعرًا ومسرحًا وروايةً وسيرةً ذاتيّةً؛ ورَسم بما تيسَّر من ألوانٍ وورق؛ وصَنع عُودًا، وتعلَّم العزفَ، وأطربَنا حتى سوَّغْنا لأنفسنا استعارةَ أغنية السيّدة فيروز، والتصرُّفَ باسم "علي" الذي نحبُّه، لنردَّ لوليد بعضَ وفائه، ونحرِّضَه على مزيدٍ من الصبر، و"الدقِّ" على جدران أرواحِنا حتى التحرير:

"عودك رنَّان رنِّة عودك إليْ

وعيدا كمان ضلَّكْ عيدْ يا [وليد]

سمِّعْني العودْ عالعالي

عيدا كمان عيدا كمان

(...)

جامِعْ هالناس على صوتِ الوتر

وَتَرَكْ حسَّاس حاجي تْزِنْ عالوتر

أثَّرت كتير عليهن

عيدا كمان وعيدا كمان.

دِقْ قَوِّيْ الدَّقّ وَعِّيْ كلّ البشر

الليل مش للنوم أصل الليل للسهر

أنتَ الدَّقِّيْقْ

أنتَ الزَّوِّيق

سَمَّعْنا."

 

المصدر: الأدب