فلسطين المحتلة – قدس الإخبارية: في "مدافن الأحياء" حيث لا يوجد معنى لكلمة "التباعد الاجتماعيّ"، حيث السجّان لا "السّائح" هو الذي يمكن أن ينقل المرض، يقبع أكثرُ من 5 آلاف أسيرٍ فلسطينيّ. السّجون هي "حجرنا" الأكبر المستمر منذ قدوم الاحتلال، والمنشأة المُعدّة لامتصاص أعمار من وهبوا أعمارهم لشعبهم، ولفلسطين التي يحلمون بها.
من بين هؤلاء 700 أسير تقريباً ممن يُصنّفون كأسرى مرضى، يحدقون بمصيرٍ يخشونه وقع لاخوتهم في الأسر، فمنذ عام 1967 وحتى اليوم، استشهد 67 أسيراً نتيجة سياسة الإهمال الطبيّ المُتعمد داخل السّجون. إضافةً إلى 155 آخرين استشهدوا داخل السّجن وهم يحلمون أن يعبُروا بوابتَه.
وبينما ننشغل خارج السّجن بخيارات الوقاية وإمكانيات "الهروب" من الفيروس، يجد الأسرى أنفسهم أمام تحديات أصعب، ووسط إجراءات قمعٍ لا تنتهي. مع بدء انتشار الفيروس في بيت لحم بداية الشهر الماضي، أعلنت "إسرائيل" تدريجياً عن إلغاء زيارات الأهالي لأبنائهم في السّجون. كما مُنعت لقاءات المحامين بالأسرى، وأُجّلت أغلب المحاكمات. وهي إجراءات جاءت على شكل عقوبات، تجاهلت عمداً أن الفيروس قد يأتي من السجّان، ومن المحقق، واللذين بطبيعة الحال يحتكان بالعالم الخارجيّ، ويعودان بعد أيام العمل إلى محيطهما الذي سجّل فيه الوباء حتى اللحظة أكثر من 12 ألف إصابة.
في ظلّ منع زيارات الأهالي وزيارات المحامين، فإن قنوات الاتصال ونشر المعلومات من داخل السّجون تضيّقت بشكلٍ كبير، ولم يعد هناك مصدرٌ فلسطينيّ واضح لأوضاع السّجون وتأثرها بالوباء، سوى في بعض السّجون التي تتوافر فيها أجهزة الهواتف النقالة المهربة. ما عدا ذلك، نبقى أسرى للمعلومات التي تُصدرها مصلحة السجون الإسرائيلية، دون أن نتمكن من مواجهتها بالرواية الفلسطينيّة من داخل السّجون.
في ظلّ هذا، فإنّ ما نعرفه عن الأسرى و"كورونا" حتى الآن، أنّ إدارة السّجون صادرت أكثر من 140 صنفاً من الـ"كنتينا"، من بينها مُعقمات ومنظفات، وأنّها أبقت على خيار وحيد وهو "الكلور"، وهي المواد التي يدفع الأسرى ثمنها من جيوبهم وبأسعار مضاعفة عن تلك الموجودة خارج السجون.
في بداية الأزمة، عرفنا عن معتقلٍ واحد عُزل في سجن عسقلان بعد اختلاطه بطبيب يُشتبه بإصابته. لاحقاً، عرفنا عن أربعة معتقلين فلسطينيّين جرى حجرهم فيما يُسمّيه الإسرائيليون "عيادة سجن الرملة"، وما يُسمّيه الفلسطينيون "المسلخ". جاء ذلك الحجر بعد الكشف عن إصابة محقق إسرائيليّ من مركز تحقيق "بتاح تكفاه"، حيث اختلط الأربعة به. عدا عن عزلهم، لم تتخذ أية إجراءات أخرى، فلم تؤخذ منهم أي عينة لإجراء الفحص.
إصابة في "المعبار"
عدا عن احتمالية التعرّض للفيروس في التحقيق، فإنّ "المعبار" بيئة خصبة لذلك. يؤدّي "المعبار" -وهي كلمة عبريّة تعني الممرّ- وظيفة تجميع الأسرى قبل توزيعهم إلى السّجون بعد الانتهاء من التحقيق معهم، أو إلى بيوتهم قبل الإفراج عنهم. ثمة ثلاثة مراكز أساسيّة تؤدي هذه الوظيفة؛ "معبار" مجدو، "معبار عوفر"، و"معبار" بئر السّبع. الـ"معبار" حدٌّ فاصل بين الحريّة والأسر، وبالاتجاهين، ولذلك تحمل طريقُ المعبر كلّ جديدٍ يأتي من الخارج، وكلّ جديدٍ أيضاً يأتي الداخل، فهناك تمرّر الرسائل والأخبار، وكذلك الأجهزة المهرّبة، وحتى النطف، وفي هذه الأيام: الفيروس.
وبدل أن تقوم "إسرائيل" بالإفراج عن أسرى، فإنّها تُضيف لهم أسرىً جدد. خلال مارس/ آذار الماضي اعتُقل ما يقارب 357 فلسطينياً من مختلف مدن وقرى الضّفة، بما فيها مدينة بيت لحم، المدينة المتضررة الأولى من انتشار الفيروس.
من بين هؤلاء كان الشاب نور الدين صرصور من بلدة بيتونيا. أفرج عنه بعد أيام قليلة من "معبار عوفر"، بتاريخ 31 مارس/آذار الماضي. في اليوم التالي تبيّن أنّه مصابٌ بالفيروس، مما أثار الخوف والارتباك في صفوف الأهالي والأسرى. طالب الأسرى فحص المخالطين، وخفض مستوى الاحتكاك مع السجّانين، كإجراء العدد من خلال الكاميرات. إلا أن مصلحة السجون اكتفت بعزل عددٍ من الأسرى الذين اختلط بهم نور الدين. وبالرغم من وعود إدارة السجن بعمل فحوصات لهم من أجل التأكد من عدم إصابتهم بالفيروس، إلا أنهم لم يخضعوا سوى لفحص درجة حرارة الجسم.
في المقابل، مُنع تنقل الأسرى بين السّجون، وكذلك بين أقسام السّجن الواحد، وقُلّص الاحتكاك بين الإدارة والأسرى، فيما أبقت مصلحة السّجون على الإجراءات الأمنيّة كالعدّ والفحص اليوميّ للغرف. وحالت هذه الاجراءات دون وصول الأسرى إلى عيادات السّجون، أو دون الخروج إلى المشافي لتلقي العلاج، والذي عادةُ ما تكون مواعيده قد حُدّدت بعد أعوامٍ من الانتظار.
وفي مواجهة إجراءات مصلحة السّجون، أحرق الأسير أيمن الشرباتي أواخر الشهر الماضي إحدى غرف المراقبة في سجن نفحة، احتجاجاً على اللامبالاة التي تتعامل بها المصلحة مع تدابير الوقاية من الوباء.
وفي سجن النقب، أرجع الأسرى وجبات الطعام، وأغلقوا الأقسام كخطوة احتجاجيّة أوليّة. في أول ردٍّ لها على ذلك، نكّلت مصلحة السّجون بالأسرى، فعزلت بعضهم. لاحقاً، وحسب ما توافر من معلومات، خضعت الإدارة يوم أمس الخميس لبعض مطالب الأسرى المتعلقة بتطبيق الإجراءات الوقائية في أقسام النقب، وتعميمها بعد ذلك على بقية الأقسام في السجون.
في هذه الأثناء، وفي نفس وقت انتشار الوباء، ينتظر الأسرى وعائلاتهم الأخبار المفرحة، إذ نشط الحديثُ مؤخراً عن صفقة تبادلٍ بين "إسرائيل" والمقاومة. تحرك ملف التبادل، فبدأ كلُّ واحد من هؤلاء الخمسة ألاف يفكر كلّ ليلة بقائمة الأسماء، ويسأل: "هل سيكون اسمي فيها؟".
تُنشر بالشراكة مع "متراس".