يعد التعلم عن بعد (Distance Learning) الموضوع الأكثر تداولاً بعد موضوع كورونا ومستجداتها، ويسميه البعض التعلم الإلكتروني(E-Learning) أو (Internet- Bsaed-Learning) أو (Computer-Mediated Communication) أو التعلم عبر الانترنت، وهناك من يعتقدون أنها كلمات مترادفة، إلا أن الحقيقة هي أن التعلم الالكتروني أو عبر الانترنت ما هو إلا أحد وسائل التعلم والتعليم عن بعد، وليس مرادفاً له.
يُشار إلى الفصل بين المعلم والمتعلم والمناهج التعليمية في بيئة بالتعلم عن بعد، وهو الانتقال من البيئة التعليمية إلى بيئة منفصلة مكانياً أو زمانياً أو كليهما معاً، ويُعد التعلم عن بعد ظاهرة حديثة بعض الشيء، فقد بدأ كنتاج للثورة الصناعية في القرن 19، وما رافقها من نهضة ثقافية كبيرة، تنوعت لتشمل كل نواحي الحياة، وكل فروع العلم والمعرفة والاكتشاف، وإيمان راسخ بقدرات العقل البشري وبأهمية العلم والعمل والتقدم، ولم يقتصر تأثير الثورة الصناعية على اوروبا بل تجاوزها إلى الولايات المتحدة الأمريكية والعالم، حيث بدأت في انجلترا باختراع الآلة البخارية، ومنها إلى بقية أوروبا ثم إلى العالم، وبالتحديد الولايات المتحدة واليابان.
وقد عرف التعلم عن بعد آنذاك بالتعلم بالمراسلة، حيث كانت الملازم والكتب والمقررات تصل للمتعلمين عن طريق البريد، وبعد دراستها وتعلمها ذاتياً يقوم المتعلمون بإرسال الوظائف لمعلميهم لتصحيحها بنفس الطريقة، وإعادة إرسالها مع التعديلات والعلامات. ثم تطورت طريقة التعلم لتشمل التلفاز التربوي (TeleCourses) وأشرطة فيديو وغيرها، ثم تغيرت لأن يحضر الطلبة في نهاية الفصل لتقديم الامتحانات مع زملائهم الذين يتعلمون في الحرم الجامعي.
وقد اعتبرت ألمانيا أول دولة تُعلّم عن بعد، عندما قام الفرنسي شارل توسان عام 1856 بتعليم اللغة الفرنسية في برلين، وتأسيس مدرسة للتعلم عن بعد "مدرسة اللّغات بالمراسلة"، ثم بعد ذلك وفي العام 1874 أخذت جامعة ألينوي الحكومية في الولايات المتحدة الأمريكية بتأسيس مناهج للتعليم عن بعد، فيما اعتبرت جامعة شيكاغو أول جامعة على مستوى العالم التي تعتمد التعليم عن بعد وكان ذلك في العام 1892، ومنها انتقلت الفكرة إلى بريطانيا.
وقد تطور التعلم عن بعد مع تطور التكنولوجيا المتسارع، حيث انتقل التّعلّم إلى المتعلم في مكان إقامته أو عمله بدلاً من المدرسة أو المؤسسة التعليمية، ومع دخول العام 1980 وبدء استخدام الحواسيب في التعلم، حقق التعلم عن بعد تقدماً ملحوظاً، حيث استطاعت التكنولوجيا الالكترونية اختصار المسافات، حيث تحول التعليم عن بعد إلى تعليم باستخدام الحاسوب والانترنت والذي اعتبر ثورة في التعليم، فالمملكة المتحدة تخرج اليوم من خلال برامج التعلم عن بعد ما يزيد على 25 ألف طالب جامعي يحملون درجة البكالوريوس، وأكثر من 100 ألف من حملة الدراسات العليا سنوياً.
وظل التعليم المحوسب أو الالكتروني يسير بالتوازي مع التعليم الجامعي، وأصبح المعلمون يتجهون نحو إعطاء بعض المهام التي تقتضي البحث عبر شبكات الانترنت للطلبة، إضافة لمشاركة الطلبة ببعض البرامج والوسائل والتقنيات التكنولوجية، واليوم تطورت وسائل التعليم الإلكتروني ليصبح مكوناً هاماً في التعليم والتعلم والعمل والتواصل بشكل عام.
وقد درُج أن يكون التعلم عن بعد تعليماً مكملاً، وأن يكون بعد استكمال مرحلة تعليمية معينة، مثلاً بعد الانتهاء من الثانوية العامة، ومع دخول أزمة كورونا وما اقتضته من حجر منزلي، وجد المعلمون والمتعلمون أنفسهم سواء في المدارس أو الجامعات على حد سواء مبعدين قصراً، عن قاعات الدراسة، ووسائل التواصل المتاحة أمامهم لا تتعدى الهواتف الذكية، والحواسيب وشبكة الانترنت، مما استدعى تطبيق حلول سريعة، ونماذج وملائمات متعددة ومتنوعة للتعلم. الأمر الذي اضطر طرفي المعادلة التعليمية (المعلم والطالب) إلى نوع جديد من التعليم والتعلم لم يألفه الطرفان من قبل.
ومن هنا بدأت المعضلة، وعلى عدة أصعدة، الأول عدد المعلمين غير المؤهلين للتعليم الإلكتروني، وخاصة في المدارس الإعدادية الإبتدائية، ومن لم يسبق لهم الدخول إلى مجال تكنولوجيا الحاسوب، والطرق التي فرضتها عليهم المدرسة أو المؤسسة التعليمية. أما المؤسسات التعليمية التي تركت للمعلمين خيار التطبيق الأنسب والأكثر ملائمة وسهولة لهم، أوقعهم في حيرة من أمرهم حول ما هو التطبيق الذي يجب استخدامه؟ وهل هناك نموذج مثالي للتعلم الإلكتروني؟ وما هي النماذج التي يعرفها المعلمون؟ وهل تناسب الطلاب؟ وكثير من الأسئلة بدون إجابات....
إن أزمة كورونا فتحت باب الأسئلة على مصراعيه، وكشفت ما خلف الأبواب من ضعف جاهزية المعلمين والطلاب والأهالي، فالمبادرات التعليمية عن بعد كانت خجولة وهشة وبدون ملامح واضحة، إلا في الجامعات وعدد من الكليات التي تمتلك منظومات ومنصات تعلم حقيقية وحصص محوسبة أو صفوف افتراضية، ولا نغفل محاولات عدد لا بأس به من المدارس الخاصة التي تمتلك منصات تعلم عن بعد وتم تفعليها بدرجات متفاوتة، وعدد من المدارس الثانوية التي تباينت في قدراتها وجاهزيتها، في حين كان معلمو المدارس الإبتدائية والاعدادية هم الأكثر حيرة.
ولا نغفل الطلاب والأهالي الذين لم يعتادوا هذا الكم أو النوع من التعلم داخل البيت، مع صفوف ومراحل تعليمية مختلفة، والوالدين اليوم يقع عليهم عاتق تعليم ومراقبة ومواكبة تعلم الأبناء، خاصة في الصفوف الأولى، وهو أمر لم يعتده أولياء الأمور ولا الأبناء. ناهيك عن شبكات الانترنت التي لا تستوعب هذا الكم من الطلاب والمعلمين والعاملين في آن واحد، ناهيك عن إحتمالية أن يكون الأبوان أحدهما أو كلاهما يعمل من خلال شبكة الانترنت أيضاً ولا وقت لديه للإشراف ولا للتوجيه. كما تشير المعطيات إلى أن أكثر من 30% من الطلاب والطالبات لا يملكون حواسيب في بيوتهم، ولا نغفل أن بعض من يملكون الحواسيب لديهم مشاكل في شبكات الانترنت، وخاصة في المناطق والقرى البعيدة، أو حتى في ضواحي المدن المكتظة.
مما لا شك فيه أن أزمة كورونا كشفت عمق أزمة التعليم الإلكتروني في المدارس، والتي تؤكد على ضرورة وجود برامج وخطط مستقبلية لتؤهل المعلمين والطلاب والأهالي لمسيرة تعليمية مؤتمة، مع العمل على جسر الفجوة التي حدثت بين الأهالي والمعلمين من جهة وعدم الجاهزية والاستعداد من جهة اخرى.