غزة - قدس الإخبارية: ضَرَب كفاً بكف، وقال بصوتٍ حانق: "يا ريتهم ما أعلنوا عن الإصابات يا زلمة، وقّف الشغل، يومين ولا شيكل بِعنا"، وأكمل: "14 سنة حصار، وآخرها يجينا كورونا يزيد الدنيا خراب؟". لملم قطع الملابس عن البسطة الخاصة به في شارع الرمال وسط مدينة غزّة، ومضى إلى بيته، بلا عشاءٍ لعائلته.
لخّص بائع الملابس، الشاب يوسف نعيم (26 عاماً)، والأب لثلاثة أطفال، الظروفَ التي استيقظ عليها عمالُ قطاع غزة يوم 22 مارس/آذار، وتحديداً بعد أن أعلنت وزارة الصّحة في غزّة تسجيل أول إصابتيْن بفيروس "كورونا" في القطاع، لشخصين عائديْن من باكستان.
لمّ يمرّ إعلان وزارة الصحة عادياً، ولا ما تبعته من إجراءات حكوميَّة، بتعطيل الجامعات والمدارس وعددٍ من المؤسسات، وإغلاق المرافق العامة والمطاعم والمقاهي، تجنباً لانتشار العدوى، إذ تحوّلت هذه الإجراءات الوقائيّة إلى نكسةٍ لعمّال المياومة.
"من وين نتلقّاها؟"
"يا خال، عالقدس قول، بدي أوصلك. المهم اركب"، قال السائق الشاب محمد حلاوة (31 عاماً) ممازحاً شاباً يقف في ميدان السرايا وسط مدينة غزّة، ثمّ ركن سيّارته الـ"سكودا" البيضاء على يمين الطريق. مدفوعاً بسخرية عبارته، سألتُ السائقَ عن أوضاع العمل بعد أن أطلّت "كورونا" على البلاد. قبل أن يجيب، فتح ذراعيه بلطفٍ قائلاً: "صحافة؟ تعال احكيلك عن همّنا".
يُعتبر السائقون- بشكلٍ خاص- من أكثر فئات العمال تضرّراً من تعطيل الجامعات والمدارس، إذْ شلّ هذا القرار ركناً رئيسيّاً كانت تدور فيه سيارات التاكسي في قطاع غزّة. عشراتُ آلافِ الطلبة كانوا يشكلون محرّكاً ماديّاً رئيسيّاً لعمّال التاكسي في القطاع، قبل أن يتعطّل هذا المحرّك بفعل الإجراءات الوقائية.
حلاوة، واحدٌ من السائقين الذين تضرّروا بشكلٍ مباشر من هذه الظروف، وخصوصاً لكونه يعمل لدى مالك السيّارة، بنظام الأجرة اليوميّة، ويحكمه التزامه بتحصيل أجرة يوميّة صافية للمالك، قبل أيّ شيء. قبل أسبوعٍ من إجراء المقابلة، لم يتمكن حلاوة من تحصيل أجرته اليوميّة المعتادة، والتي لا تتجاوز 30 شيكلاً. يقول إنّ شوارع غزّة تحوّلت إلى صحاري بعد "كورونا".
بعد أن شرح حلاوة هذ الظروف، أنهى حديثه بتساؤلٍ ساخر: "من وين نتلقّاها؟ من كورونا إلي طلعتلنا في السحبة، ولا وضع غزة نفسها؟".
30 ألفاً دون مصدر دخل
منذ بدء أزمة "كورونا"، رصدت نقابة العمال توّقف أعمال أكثر من 30 ألفَ عاملٍ وعاملة في قطاع غزّة، بفعل إجراءات الوقاية، حسبما قال مسؤولها سامي العمصي لـ"متراس". إنَّ غالبيَّة عمّال غزَّة يمتهنون أعمالاً حرّة، وبشكلٍ غير منظّم، أيْ بلا عقود عمل أو ارتباطٍ تحت أي بندٍ قانونيّ، وفق النقابة.
سوق مخيّم جباليا، قطاع غزّة. السبت 04.04.2020. تصوير: وائل إياد. (متراس)
وتتنوع الأعمال الحرّة التي يتّخذها العمّالُ في قطاع غزّة مصدراً للرزق، لكن الأكثر تضرّراً بينها خلال هذه الأزمة هم: أصحاب البسطات، وسائقو التاكسي، وبائعو الخضار في الأسواق الشعبيّة، وعمال البناء، والعاملات في رياض الأطفال، والعمال في المحلّاتِ التجاريَّةِ. هؤلاء، نهايةَ كلّ نهار، يحصلون على أجرةٍ يوميَّة، وتوقّف العمل يعني عدم وجود أيّ دخلٍ مادي آخر لهم، ولا حتّى تعويضات خلال الظروف الراهنة.
محاولة لتجاوز الأزمة
من جملة الإجراءات الوقائيّة، التي اتّخذتها الحكومة في غزّة، منعُ الأسواق الأسبوعيّة والشعبيَّة مثل "سوق الجمعة". ترك هذا المنعُ الباعةَ، الذين يعتبرون هذه الأسواق مصدرَ رزق أساسيّ، في وجه الريح.
بائع الخضار الشاب محمد سمحان، من خانيونس جنوبَ القطاع، كان واحداً من الباعة في أحد أسواق المحافظة. يعيل محمد عائلته، وبعد قرار المنع، قرّر تحويل نمط عمله إلى البيع عن طريق التوصيل.
يوصلُ كلّ أصناف الخضراوات التي يبيعها إلى بيوت مشتريها من سكان منطقته (الشرقية) في خانيونس، وأنشأ محمد صفحة على موقع فيسبوك وعنونها بـهاتلي - Hatly، ليدير عمله عبرها.
يقول محمد إنَّ هذه الصفحة قد ساعدته في تحدّي الأزمة إلى حدٍّ ما، إذْ لاقت إقبالاً من أهالي منطقته في الأيام الماضية، ولكنَّ البديل الذي لجأ إليه، بتقديمِ خدماته على الإنترنت، خيارٌ غير متاحٍ لكلّ المهن المتضرّرة من الإغلاقات.
من يُطعم عائلات العمال؟
ليلة 25 مارس/آذار، أعلنت وزارة الصحة في غزّة تسجيل 7 مصابين جُدد بفيروس "كورونا"، وهم رجال أمن قد خالطوا الحالتيْن السابقتين في مركز الحجر الصحيّ في رفح أقصى جنوب القطاع. أُدخل إلى الآن أكثر من 1800 شخصاً إلى مراكز الحجر الصحّي الخاص، موزّعين على 22 مركزاً للحجر في كلّ محافظات القطاع، ما بين فنادق وعيادات ومستشفيات، حسب تقرير وزارة الصحّة الأخير.
بعد الإعلان، تزايدت مخاوف أهالي القطاع، ومعها الدعوات المطالبة بفرض حظرٍ شامل للتجوال في غزّة، ومنع التنقّل بين المحافظات، كإجراءٍ وقائيّ جديد. إذْ تُرجّح الجهات الطبيّة إمكانية تسجيل إصاباتٍ جديدة في القطاع، وهي فرضيّة غير مستبعدة أبداً، وقدّمها المتحدّث باسم الوزارة أشرف القدرة خلال إيجازه الصحفيّ اليوميّ.
كما أعلن رئيس لجنة متابعة العمل الحكوميّ في غزّة، محمد عوض، تمديد إغلاق المدارس والجامعات حتى إشعارٍ آخر. من المؤكد أنَّ العمّال سيتحملون عاقبة ما تؤول إليه تطورات الأزمة في القطاع، ونتائج أيّ إجراءٍ سيُتخذ خلال الأيام المقبلة. لكن أمام ذلك، كيف تحرّكت الجهات المعنية؟
على غرار ما فعلته نقابة العمّال في رام الله، اجتمعت نقابة العمّال في غزة مع وزارة العمل، وقدمت وفق قول مسؤولها العمصي لـ"متراس" مجموعة من المقترحات، لمساعدة العمال المتضرّرين من الأزمة. من بين هذه المقترحات تخصيص جزء ثابت من المنحة القطريّة لقطاع غزّة، وصرفه للعمّال المتضرّرين.
بدأتْ عمليّة صرف المنحة صباح الثلاثاء، 31 مارس/آذار، دون إجراء تغييرٍ على عدد الأسر المستفيدة منها، والتي حدّدت مسبقاً. وتبلغ قيمة المنحة الأميريَّة القطريَّة 150 مليون دولار، وستُصرَف على مدار أسبوعيْن لـ100 ألف أسرةٍ محتاجة في غزَّة، غبر فروع البريد، بواقع 100 دولارٍ للأسرة الواحدة.
في سياقٍ متصل، أعلن رئيس اللجنة، محمد عوض، إنّ حكومة غزّة قررت تخصيص مبلغ إغاثيّ عاجل بقيمة مليون دولار لصالح 10 آلاف أسرة من أصحاب الدخل اليوميّ، والذين تأثّروا من إجراءات حالة الطوارئ الحالية، وستتابع وزارة التنمية الاجتماعية آليّة الصرف.
يُضاف إلى ذلك مبادرة "عيلة واحدة"، والتي يقدّم من خلالها موظّفو الحكومة تبرعاتٍ من مستحقاتهم للأسر الفقيرة، وهم حالياً في طورِ ترشيح لوائح تضمّ أسماء المستفيدين من تبرعاتهم، شريطةَ أنْ يكون المستفيدون المرشحون من المتزوجين، وليس لديهم دخلٌ آخر، ولا يتقاضوْن مساعداتٍ من وزارة الشؤون الاجتماعيَّة، ومن لا المنحة القطريَّة، وستحصل كلّ أسرة على 200 شيكل من تبرّعاتِ الموظفين.
حقوق العمال بالقانون
مقترح النقابة الثاني، حسب العمصي، يخصّ العاملين بنظام العقود، أو من يرتبطون بشكلٍ رسميٍّ مع أصحاب العمل، ويتلخص المقترح بإلزام وزارة العمل أصحابَ العمل بدفع 40% من رواتب العمال عن شهريْ مارس/آذار وأبريل/نيسان.
وفقاً لقانون العمل الفلسطينيّ، لا يحق لربّ العمل إنهاء عقدٍ مع موظّفيه بذريعة الظروف الطارئة، فلا ينتهي عقد العمل بصدور قرار إداريّ بإغلاق المنشأة، أو إيقاف نشاطها مؤقتاً، لمدة لا تزيد عن شهريْن، مع إلزامِ دفع الأجور للعامل أثناء الإغلاق.
يقول العمصي إنَّ الوضع مختلف بالنسبة للعمال غير النظاميّين، أي عمّال المياومة، فالأمر متروك لما يريده صاحب العمل، ويعذره العمصي بقوله: "معذور بعضهم غالباً، لأنّ أثرَ الأوضاع الاقتصاديّة في غزة على الجميع". مضيفاً أنّ هناك توافقاً بين نقابة العمال ووزارة العمل على تقديم مساعداتٍ للعمال، ودراسة مقترحات النقابة.تُضافُ هذه الأزمة إلى أزماتٍ متلاحقة فاقمت نسبة الفقر بين السكّان في غزَّة خلال العقد الأخير، لتزيدَ عن 53٪، حسب الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطينيّ، معها مخاوفُ صحيَّة كبيرة تنفردُ فيها هذه الأزمة بالذات.
*نُشرت هذه المادة بالتعاون مع متراس.