طولكرم- خاص قدس الإخبارية: كما قال العرب قديماً عن أبنائهم حين كبروا "ربيناهم كلّ شبر بنذر"، ربّى المزارع الفلسطيني فايز الطنيب، كل شتلة بمعركة، فقد توفي والده في ربيع 1984، وبعد 7 أشهر من التحدي أثمرت أخيراً شتلات البندورة والكوسا، وقرر الحفاظ على أرضه من استيلاء الاحتلال الذي يقيم معسكراً في الأرض المجاورة ويستبيح مزرعة العائلة خلال تدريباته.
كانت بعض الشتلات المثمرة هي كل ما تبقى مما اقتلعوه وأتلفوه خلال اعتداءاتهم على المزرعة، بسبب محاولة "فايز" إخراجهم منها، ومن هنا بدأ المشوار في "حاكورتنا".
"حاكورتنا"، هي مزرعة نوعيّة صديقة للبيئة، يتم داخلها إنتاج المزروعات الخالية من الكيماويات، والغاز الطبيعي (غاز الميثان الذي يتم إنتاجه من الفضلات الحيوانية)، تمتد على مساحة ٢٤ دونماً غرب مدينة طولكرم، تعود لأسرة المزارع فايز الطنيب الذي يعتمد فيها على نمط الزراعة العضوية وهي طريقة الأجداد الخالية من أي كيماويات، والزراعة الآمنة التي تستخدم الحد الأدنى من المواد الصناعية بحيث لا تشكل ضرراً صحياً.
يتجاوز عمل الطنيب حدود مزرعته في مقاومة الاحتلال، إلى جهوده محلياً ودولياً في الدفاع عن القضية الفلسطينية، فقد سعى لسنوات لمحاربة خطر التلوث من مصانع "جيشوري" الملاصقة لمزرعته، ولجأ للقانون والضغط من خلال مؤسسات حقوقية لكن جهوده لم تغير شيئًا حيالها.
قرر أن يحارب وجود هذه المصانع بالحفاظ على أرضه ونقل صورة الوضع للرأي العام الغربي، واستطاع خلال سنوات جذب الكثير من الوفود الأجنبية المتضامنة مع فلسطين لزيارتها والاطلاع على انتهاكات الاحتلال، كما سافر لأكثر من ٢٠ دولة وتحدث عن القضية الفلسطينية.
وفي عام ٢٠٠٢، بدأت معركة جديدة في حياة الطنيب عندما بدأ الاحتلال بناء "الجدار الفاصل"، الذي اقتطع نحو ١٥ دونماً من مزرعته، لكنه واصل العمل على ١٧ دونماً متبقية، واستأجر جوارها ٧ دونمات من أصحابها المغتربين ليضمن مساحة أكبر تحت حمايته، وهو الآن يعمل في ٢٤ دونماً مع أسرته.
بناء الجدار فرض على الطنيب جولة جديدة في مقاومة الاحتلال في أرضه وفي الخارج؛ فهو أول من تحدث خارج فلسطين عن بناء الجدار، وكانت آخر ثمار عمله في إيرلندا قبل عام حيث استطاع بالتعاون مع متضامنين إيرلنديين مع القضية الفلسطينية الحصول على تأييد البرلمان الإيرلندي لمشروع قرار مقاطعة إيرلندا لمنتجات الاحتلال.
"الماء، الغذاء، الطاقة" هذا الشعار الموضوع على يافطة في المزرعة يشكل قناعة أساسية لدى أسرة الطنيب، يقول: "خلال الظروف السياسية والاقتصادية الصعبة التي تزامنت مع بدء تطويري للمزرعة منذ عام ١٩٨٥ تذكرت المناضل الأممي 'غاندي' الذي استثمر مقدرات بلاده للاستغناء عن السلع الانجليزية في سبيل التحرر من الاستعمار".
يتذكر الطنيب مشواره الذي اصطدم منذ البداية باعتداء الاحتلال وتشييد مصانعه، ويعبر عن قناعته بالإنتاج الذاتي والاعتماد على خيرات الأرض من خلال تمسكه بالزراعة التي تعتبر أساس إنتاج الأرض الفلسطينية منذ القدم.
عزز الطنيب جهوده بالمعرفة العلمية التي سعى لاكتسابها في مجال الزراعة العضوية، يتحدث عن مشواره في التعلم: "بعد ٤ سنوات من عمل مصانع جيشوري الإسرائيلية حصلت أول عملية تلويث زراعي في مزرعتي فأدركت حينها خطورة التلوث الكيماوي، الذي دفع مستوطني منطقة 'دلمون' للاحتجاج لدى محكمة لوجود المصانع بالقرب منهم، فأصدرت المحكمة قراراً لصالحهم بنقل الأذى إلينا فأقاموا المصانع في طولكرم، وبدأت بالبحث والتعلم عن التلويث الكيميائي، وأول ما تلقيته كان دورة مكثفة مع مؤسسة الإغاثة الزراعية الفلسطينية، وأدركت خلالها الحقائق المرعبة حول تأثيره على الأرض والإنسان".
يتم الاعتماد في مزرعة حاكورتنا على السماد الطبيعي من روث الأبقار بشكل أساسي، حيث يتم معالجتها بطريقة طبيعية حتى تصبح سماداً سائلاً، كما يتم الاعتماد على الأسماك في إنتاج السماد الطبيعي لإحدى البيوت البلاستيكية.
تشكل حاكورتنا نموذجاً مقاومًا، يزوره باستمرار طلاب الجامعات من التخصصات الزراعية إضافة لطلاب النوادي البيئية من المدارس.
يواصل الزوجان فايز الطنيب ومنى عودة عملهما منذ أكثر من ٣٤ عاماً في مزرعتهم التي تحيطها مصانع "جيشوري" الإسرائيلية من جهتين، بينما يحدها من جهة ثالثة "الجدار"، وبين هذين التحديين الخطيرين عبرا الكثير من المحطات التي لم تنل من عزيمتهما.
يشيد فايز بزوجته التي وقفت إلى جانبه، قائلًا: "رزقني الله زوجة صالحة صبورة ومناضلة، لديها القوة والإرادة التي جعلتها تساندني عندما اعتقلني الاحتلال في بداية مشوارنا عام ١٩٨٥ لغاية الآن"، بينما هي تستقبل بشكل مستمر الوفود والزوار الذين يأتون للمزرعة ويقيمون في منزلهم في كثيرٍ من الأوقات.
بالنسبة لمنى عودة فهي تعتبر أن الأرض تعطي أصحابها كلما تمسكوا فيها أكثر، وتقول "هذه الأرض هي التي أعطتني القوة دائماً، وبقدر ما أنال من التعب؛ ألقى راحة نفسية بعده، وأشعر بقيمتي لأني أنجزت عملاً نافعاً".
وهما يشاهدان سويًا، حال البذرة التي تصبح ثمرة، فخلال 7 أشهر من التحدي أثمرت أخيراً شتلات الطماطم والكوسا.
يتجسد الصراع على الأرض الفلسطينية في مزرعة "حاكورتنا" التي ورثها الطنيب عن والده، وكان الأخير عمل بها منذ عام ١٩٥٣، حتى وفاته عام ١٩٨٣، وتجسدت البداية بخشية فايز الطنيب، من استيلاء الاحتلال عليها، لكنه أصبح فيما بعد "ارتباطاً روحياً" حسب تعبيره، فقد أدمن رعايتها وتعلق بها، وازداد تمسكاً بسبب الصعوبات التي اعترضته، وبالنسبة له فإن التمسك بفلسطين يبدأ من التمسك بزراعة أرضها والحفاظ عليها.