لم يعُد أمام الشعب الفلسطينيّ طرق أو خيارات كثيرة غير العصيان والتمُرّد الشعبيّ على مَرحلة تاريخيّة يمكن وصفها بـ " مرحلة السلطة " التي قامت على أساس اتفاق بين قيادة منظمة التحرّير والكيّان الصهيوني برعاية أمريكيّة مُباشرة. إن الاتفاق المسخ والكارثي الذي جرى توقيعه من وراء ظهر الشعب الفلسطيني وعُرِف ب " إعلان المباديء" في غرف الظلام لا يُلزم شعبنا في شيء لكن كانت مُحصلته كارثية توازي نكبة العام 1948 ، إنه السلطة الفلسطينية كيان بلا شرّعية شعبية وثوريّة أو حتى دستورية، كيان له وظيفة (أمنيّة، سيّاسية، اقتصاديّة، ثقافيّة) كلّها تعمل لصالح تكرّيس الكيّان الصهيوني في فلسطين، ولتأمين وحماية امتيازات طبقة فلسطينية بعينها، عددها لا يتجاوز مئات الأفراد قبضوا على روح القضيّة ومنظمة التحرير، وانخرطوا بحماسة في مشروع "السلام الاقتصادي" والتعايش مع الكيّان المُحتل .
إنها طبقة الرّساميل المهزومة، طبقة السلطة!
ومع إعلان ما يُسمى " صفقة القرن " تكون هذه المرّحلة قد وصلت الى نهاياتها الأخيرة. وعليه، بات المطلوب اليوم، شعبيًا أولاً، مُحاسبة من قرّروا خِداع الشعب والذهاب في نهج التفريط والعبث، فاعتمدوا سياسة القمع و التفرد والاقصاء والهيمنة على كافة مؤسسات الشعب وتقديم التنازلات باسمه، وذلك بعد أن استسلموا، علناً أمام العالم وعلى عتبة البيت الابيض في 13 سبتمبر عام 1993 .
يعرُف شعبنا بقية القصة أكثر منّا، وكيف وصلنا الى هذه النتيجة. كما يُدرك الشعب الفلسطيني بوعيه التّاريخي وتجربته أن " كيان أوسلو " أصبح المغطس الذي وقع فيه ويكبله من كل الجهات، وأيقن أن " أوسلو " كان الخديعة الكبرى. فكيف يخرج من أحابيلها ويفك حبل المشنقة ؟ لا ليتحرر ، بل ليقاتل عدوه المركزي وينجز مشروعه الوحيد : العودة والتحرير.
مع الاعلان عن صفقة ترامب يبحث البعض على مشروع لإنقاذ نفسه ومصالحه فيما يبحث شعبنا عن مشروع إنقاذ وطني جماعي ، لوطنه وقضيته ومستقبله. لقد قدّم عشرات آلاف الشهداء ونحو مليون أسير/ة منذ العام 1948 دخلوا سجون العدو، خسر شعبنا كل ما لديه من أجل أن تظل وتبقى فلسطين ـ القضية ـ الحقوق ـ وهو لا خيار أمامه إلا أن يواصل مسيرته الكفاحية ، من جيل إلى جيل ، حتى ينجز كامل أهدافه وحقوقه الوطنية. لكنه مرة اخرى مقيد بحبال كيان أوسلو.
منذ العام 1968 حاول العدوُّ الصهيونيّ خلقَ ما أسماه "الكيانَ الفلسطينيّ،" بالتعاون مع "كبار شخصيات" الضفة وغزّة والقدس الشرقيّة، من ممثّلي الرأسمالية الفلسطينية الكبيرة والزعاماتِ العشائريّة والقياداتِ التقليديّة (على ضفّتي النهر). هذه الشخصيّات والقوى كانت تُراهن، وما تزال، على علاقتها الوثيقة بالنظام الأردني على نحو خاص. مبادراتٌ ومشاريعُ تصفويّة كثيرة ظلّت تتوالد، ويُعاد إنتاجها تحت أسماء لا حصرَ لها، كان "مشروع الحكم الإداريّ الذاتيّ" في مقدّمِها، بل كان جوهرَها ومضمونَها.
يمكن القول إنّ هذه المشاريع التصفويّة هي بمثابة "الحلّ" الاستعماريّ الصهيونيّ الرجعيّ، بديلًا من الحلّ التاريخيّ الثوريّ الذي قدّمته الثورةُ الفلسطينيّةُ مع تصاعد العمل الفدائيّ: نقصد مشروعَ التحرير والعودة وإقامة المجتمع الديموقراطيّ في كلّ فلسطين. وقد ظلّ الاسمُ المقترح لـ"الحكم الإداريّ الذاتيّ المحدود" يتبدّل في إطار مبادراتٍ سياسيّةٍ متُعدّدة، تَرسم طبيعةَ العلاقة بين كيان الاحتلال والفلسطينيين في الضفّة والقطاع، وفق قاعدة الأسياد والعبيد. والهدف: تشريعُ كيان الاحتلال الاستعماريّ الاستيطانيّ في كل فلسطين، لا مجرّد عدم الانسحاب من الضفّة وغزّة.
وظلّ الجوهرُ ذاته لا يتغيّر. إلى أن جرت ترجمتُه على الأرض عبر توقيع اتفاق اوسلو على يد قيادة حركة فتح، وتأسيس السلطة الفلسطينيّة (1994) كما قلنا سالفاً . وقد ترافقتْ ولادةُ هذه السلطة مع انقلابٍ كاملٍ في المنظومة الدوليّة والعربيّة، ومع انهيارٍ (بل تهديمٍ متعمّدٍ)، شبهِ شاملٍ أيضاً لمنظّمة التحرير ومؤسّساتِها. وهكذا وجدت الرأسماليّةُ الفلسطينيّةُ فرصةً سانحةً لتأسيس كيّانها المسخ الهزيل والتابع تحت اسم "السلطة الفلسطينيّة،" مُتّكئةً على حزبها السياسيّ، وعلى القاطرة التي ستركبها وهي : حركة فتح.
جاءت السلطة الفلسطينيّة إذن ثمرةً مسمومةً، ونتيجةً لِما تراكمَ من سياساتٍ تنازليّة وعبثيّة سابقة بدأت في العام 1974 لكن هذه قصة أخرى.
وبدأتْ مرحلةٌ جديدةٌ من السلب والتراجع، ما زلنا نعيش نتائجَها الكارثيّةَ حتى يومنا هذا. فالحقّ أنّ خطورةَ وجود كيان أوسلو (ما يُسمّى "السلطة الوطنيّة الفلسطينيّة") في زمن النيوليبراليّة المعولمة، بعد انهيار المعسكر الاشتراكيّ، والوجودِ الأمريكيّ العسكريّ المباشر في المنطقة، وما تبع كلَّ ذلك من حروب، تَكْمن في أنّها أصبحتْ جزءًا من أدوات تصفية القضيّة الفلسطينيّة؛ أيْ: تصفية المشروع الوطنيّ التحرريّ على يد الفلسطينيين أنفسهم. ذلك لأنّ "القلعة تؤخذ من الداخل" كما يقال. ولم يكن في وسع العدوّ التقدّمُ شبرًا واحدًا من دون وجود الأداة الفلسطينيّة، التي وفّرتْها قيادةُ حركة فتح تحديدا التصفية برمّته.
إن الغضب الشعّبي الفلسطيني ضد " كيان أوسلو" هو في الجوهر غضب ضد الاحتلال أولاً. هذه السلطة الموجودة اليوم هي سلطة إسرائيلية أمريكية أوروبية بامتياز، التمُرّد عليها وإسقاط نهجها العبثيّ يعني الرّد الشعبي والعمليّ والوحيد على مشروع التصفيّة ويعني إطلاق سراح المعتقلين في سجونها، بالقوة، ويعني إعادة الاعتبار للميثاق الوطني الفلسطيني والى وحدة الشعب ـ الارض ـ ويعني أيضًا بداية جديدة لتأسيس السلطة الشعّبية الفلسطينيّة نحو إعادة الاعتبار للقضيّة الوطنية الفلسطينيّة وجوهرها: العودة والتحرير الشامل لفلسطين.