ليس من باب الصُدفة أن أطلق علينا ناجي العلي اسم "شعب الله المحتار" فما يُلقيه الواقع اليومي أمام الانسان الفلسطيني من أسئلة صعبة ومركبة تدفعه دائمًا الى دوائر الحيرة والقلق. وليس من الممكن ولا من الضروري أن يكون لديك جوابًا جاهزًا مُكتملا عن كل ثورات وقضايا الكون لأنك فلسطيني/ ـة وأن يكون هذا الموقف هو "موقف الشعب كله!"
وننسى في زحمة الحياة وحمى الصراع وتعقيداته أننا بشر ولسنا وحدة منسجمة موحدة ولا صورة مستنسخة طبق الأصل، وفي نهاية الأمر نحن شعب من طبقات وفئات ومجتمعات وأديان ومدارس فكرية ومرجعيات ثقافية وتجارب متعددة لا حصر لها. هذا الاختلاف هو في الواقع مصدر قوة هائلة لنا وسلاح فعال في مواجهة العدوّ، ويمكن في الوقت ذاته أن يتحول الى مقصلة ومصدر ضعف وتفكك!
صرنا نعتبر أن كل خلاف في الرأي يعني "انقسام فلسطيني" هكذا عطلنا النقد الجاد وأفرغنا الحوار الحقيقي من مضمونه وجوهره .. الهدف من الحوار ليس الإقناع المُتبادل بل امتحانًا للأفكار، ونحن لم نعد نتحاور، حول الأسئلة الصحيحة .. تراجع إنتاجنا الفكري والعلمي اليوم، في كل المجالات. والبعض منا يفضل اغتيال الحوار بذريعه أنه يريد حمايتنا من الانقسام، فننقسم أكثر..
ولهذا يغوص الفلسطيني الحقيقي والجمالي والطبيعي والعادي في قاع البحر ويتوارى في التفاصيل بينما يحتل الزيف والرّياء والتسحيج وهياكل السلطة يحتلون كل المشهد السياسي والثقافي والإعلامي..
ان أسوأ ما فينا يخرج في مرحلة التراجع القيمي والجزر، في مرحلة السلطة والعزوف عن المشاركة والبحث عن الخلاص الفردي.. وأجمل ما فينا يطفو إلى السطح في مرحلة الثورة والمد الوطني ومشروع الخلاص الجماعي.. وفي هذا المشروع الشعبي ليس السلاح وحده من يظهر، بل والأدب والموسيقى والعلم والشعر والفكر والمسرح وتعود هيبة الشعب ومعنى وجوده ويلتقط رسالته التاريخية ومعنى هويته الوطنية...
لا مشروع سياسي تحرري دون أن يلازمه بالضرورة مشروع ثقافي يبشر به ويستجب له وهذا بالضبط ما قصده كنفاني حين قال إن قيمة كل كلماته كانت تعويض صفيق عن غياب السلاح، وليس المطلوب أن نستبدل القلم بالرصاص أو العكس، بل أن مشروع التغيير والثورة تصنعه إرادة بشر.. بشر حقيقون وبنادق حقيقية ومشروع حقيقي وهدف حقيقي .. يصنعه الوعي النقدي.
لا بد من دراسة فلسطينية اليوم تستعير عنوانها من كتاب المفكر الاقتصادي المصري جلال أمين (ماذا حدث للمصريين)؟ ونسأل ماذا حدث للفلسطينيين؟ ما معنى اليوم أن نقول "الثقافة الفلسطينية" و"الأدب الفلسطيني" و"الهوية الفلسطينية" و"الشعب الفلسطيني" .. إلى آخره من كلمات لا تعني أي شيء إلا إذا صار لها معنى متفق عليه!
كان ناجي يُحرّض شعب الله المحتار ويحبه، لكن لا يجامله ولا يستعلي عليه، بل يطرح أمامه الأسئلة الصحيحة الحارقة التي تكرهها سلطة المؤسسة وخفافيش السياسة/ الثقافة، ويقول ناجي لشعبه ستظل في حيرة ولن تجد الجواب إلا في الثورة والتمرد والعصيان الشعبي وعليك أن تتمرد على نفسك أولًا .. تعود شعبًا واحدًا يجمعه هدف وجودي كبير ووحيد: تحرير فلسطين..