رام الله المحتلة - خاص قدس الإخبارية: بعيون تداري دمعها وقلب مكلوم مع بداية شهر رمضان، الذي ينذر باجتماع العائلة على مائدة واحدة، تعيش نعيمة أبو كويك والدة الأسير أحمد أيوب عبيدة (19 عاماً) من مخيم الجلزون شمال رام الله، حزناً على مقعد فارغ لأحمد، الذي يصرّ الاحتلال على إصدار حكم المؤبد ضده.
"آخر مرة رأيت فيها أحمد كانت خلال جلسة محكمة في الخامس من أيار الجاري، حيث قررت نيابة الاحتلال إصدار حكماً بالسجن بالمؤبد بحقه إضافة لغرامة بقيمة خمسة ملاين شاقل، بتهمة مشاركته في عملية طعن عام 2016" تروي نعمة لـ قدس الإخبارية.
تعود قصة أحمد إلى عام 2014، حيث اعتقله الاحتلال وهو بعمر الأربعة عشر عاماً، بتهمة القاء الحجارة على مستوطنة "بيت ايل" المقامة على أراضي الفلسطينيين، بمحاذاة مخيم الجلزون.
تعرض أحمد خلالها للتعذيب، والضرب المبرح على يد جنود الاحتلال رغم صغر سنه، ولم يكن يخطر في بال نعيمة حينها أن ابنها الذي ما زال طفلاً ستغيبه سجون الاحتلال عنها 8 أشهر، وسيغيب عن أفراح العائلة التي ستتحول في قلب الأم إلى غصة كبيرة، وهي التي تعلم ماذا يحدث للأسير فكيف إن كان طفلاً.
عام 2015 عند انطلاق شرارة انتفاضة القدس، كان أحمد يتابع الأحداث بصمت طويل، تقول والدته، "كنت أشعر أن ثمّة شيء يفكر به أحمد، ولكني لا أعلم ما هو بالتحديد، طفلي أحمد كان من المتفوقين في مدرسته، انقلبت حياته رأساً على عقب أصبح دائم التفكير في وطنه".
وتتابع الأم، "كان دائم السؤال "اذا لم ندافع نحن عن الوطن من يدافع؟"، دائم الصمت وإذا تحدث يتعرض للأحداث التي تشهدها الساحة الفلسطينية من قتل متعمد للنساء والاطفال، وكان متابع حثيث لعمليات الطعن والدهس التي كان ينفذها الفلسطينييون".
بعد إلحاح من العائلة، التحق أحمد في المدرسة لإكمال دراسة الصف العاشر، وفي إحدى المرات شارك في مواجهات مع الاحتلال على حاجز عطارة شمال بيرزيت دون علم عائلته ميسورة الحال التي تسكن في مخيم الجلزون.
والدته شعرت بخوف مفاجئ عند متابعتها للأخبار وخاصة عندما شاهدت خبراً يتحدث عن إصابة فتى برصاص الاحتلال ونقله الى مستشفى رام الله، إحساس الأم الذي لا يمكن تكذيبه كان صادقاً كما كل مرة، كان الفتى هو أحمد، والذي نجا من إصابة بالغة كانت تعرض حياته للخطر إذ أصيب بشظايا رصاص الاحتلال في منطقة الصدر بمحاذاة القلب تماماً.
تعافى أحمد وعاد إلى مقاعد الدراسة، واعداً العائلة بالالتزام التام في الدراسة، وتستذكر نعيمة ابنها أحمد وقد جاء إليها في إحدى الأيام: "بدي ابسطك، رجعت أجيب علامات عالية، سكرت العلامة في مادة التنشئة" تلك المادة التي تتحدث عن الوطن وهموم القضية الفلسطينية".
ضحكت والدته حينها وقالت له "لأنها تنشئة وحب الوطن بس، آه؟" بادلها أحمد الضحك أيضاً، وأدرك أن أمه فهمت لغزه، أنه لا انفكاك عن الوطن، "أصبح أحمد عاملاً في أحد مصانع رام الله، وقدم طلباً للالتحاق في معهد قلنديا للتعليم المهني، هذه الأحداث كلها كانت في غضون 10 أشهر بعد تحرره من سجون الاحتلال".
الثامن عشر من شباط لعام 2016، كان لحظة فاصلة في حياة أحمد عبيدة وعائلته وحياة فتيين فلسطينيين، نظر أحمد (16 عاماً) إلى أمه بصمت، نعيمة كانت تعلم أنه يخفي خلف هذه النظرة أمراً ولكن ليس بهذه السرعة التي جرت عليها، تناول أحمد غداءه في المنزل وخرج على نيّة الذهاب الى العمل كما تعلم عائلته.
ولكن شقيقه الذي يعمل معه في ذات المصنع أخبر والدته أن أحمد لم يتواجد في مكان العمل، شعرت الأم حينها أن ناراً اشتعلت في صدرها، هاجس صمته ونظرته إليها بالتأكيد لها معانٍ كبيرة، اتصلت العائلة بأحمد، ولكن هاتفه كان مغالقاً، الأمر الذي زاد رعب العائلة على مصير نجلها، ليس لها سوى شريط الأخبار ربما ينبئها بشيء عن فتاها، فانتشر خبر "عملية طعن في متجر رامي ليفي شرق رام الله، واستشهد فثنين واصابة ثالث" خبر جعل نعيمة تصرخ بأعلى صوتها، إنه أحمد بالتأكيد، أحمد استشهد! أحضروه لي.
عملية الطعن التي نفذها الفتيين أيهم صباح (14 عاماً) وعمر الريماوي (14 عاماً) من رام الله، داخل متجر رامي ليفي الاسرائيلي شرق المدينة ، قُتل فيها إسرائيلي وأصيب 3 آخرين وفق إعلان الاحتلال، فيما أُطلق النار على الريماوي وصباح وأصيبا إصابات بالغة، وهما أسيران في سجون الاحتلال.
3 ساعات قضتها عائلة عبيدة تنتظر جثمان نجلها أحمد وسط لوعة قلب الأم وهي تردد: "لماذا فعلت بس هكذا يا احمد؟ لماذا لم تودعني قبل رحيلك؟ لماذا ولماذا!" ولكن الأسئلة لا إجابات لها، وسط جهل مصير أحمد.
الأب أيوب عبيدة لم ييأس من الاتصال بأحمد وأصدقائه الذين أكدوا له أنهم لم يشاهدوا فتاه طيلة اليوم، إلى أن أعاد أحمد فتح هاتفه، الأب لأحمد: أحمد وينك؟
أحمد: هيني في الطريق إلى البيت، كنت عند صاحبي
الأم التي ظنت ابنها شهيداً، استقبلته بكامل قوته البدنية، احتضنته لحظة وصوله الى المنزل وكأنه وُلد الآن، وكأنه كان غائباً دهراً ورده الله لها كي تقرّ عينها ولا تحزن، ولكن أحمد كان على حال غير التي غادر المنزل عليها، همس لأمه "استشهدوا يمّا" ودخل في حالة صمت طويلة.
تشير نعيمة الى أنها فهمت ما قصده أحمد، فبدأت تطرح عليه الأسئلة:
- أحمد انت كنت معهم؟
-- يا ريتني استشهدت زيهم!
- بهون عليك قلبي يمّا. ما فكرت فينا؟
كسر صمت أحمد أسئلة والده عن مجريات العملية، فأخبره أن أحد حراس متجر رامي ليفي لم يسمح لأحمد بالدخول الى المتجر وأخرجه منه لأنه لم يصدق أن أحمد بعمر 16 عاماً فقط، فقد كان قوي البنية وطويل القامة، ثم دخل أيهم وعمر الى المتجر، وهناك نفذا العملية كما كان مخطط لها وفق اعترافهما تحت تحقيق الاحتلال القاسي، ونفذا العملية، وأٌصيبا وأٌسرا.
كانت الأخبار في تلك الفترة تتحدث عن انسحاب منفذ ثالث للعملية، أيقنت العائلة أن ابنها أحمد بات مطارداً، ولم تلبث ساعات حتى كان أكثر من 200 جندي صهيوني يحيطون الحيّ الذي تسكنه عائلة أحمد في مخيم الجلزون، داهموا المنزل ومنازل قريبة منهم، عاثوا فيها خراباً كبيراً، وضربوا شباناً، واعتقلوا أحمد وسط الاعتداء عليه بالضرب المبرح كما كشفت كاميرات مراقبة المحال التجارية في المخيم.
كان ارتباط أحمد بأيهم وعمر بسيط جداً، ضمن علاقة تعتبر سطحية، لم تكن في طور تنفيذ عملية، فتية في مقتبل أعمارهم، يكبرون خلف قضبان السجن بعيداً عن أعين عائلاتهم.
4 سنوات ما بين المحاكم المؤجلة والبوسطة اللعينة التي ترهق جسد ونفسية الأسير الفلسطيني في تنقلاته من السجن الى قاعات المحاكم، وفي كل مرة تصرّ نيابة الاحتلال على إدانة أحمد بتنفيذ عملية طعن رغم أنه لم ينفذها، ولكنه يُحاكم على نيّة التنفيذ، وحُكم بالسجن المؤبد القابل للتجديد وغرامة مالية قدرها خمسة مليون وأربع وعشرون ألفاً وأربعمائة وواحد وثلاثين شيقلاً (5024431).
وتقول نعيمة أبو كويك والدة الأسير أحمد عبيدة الذي بات يبلغ من العمر 19 عاماً، إن قدوة نجلها كان الأسير رمزي عبيد، قائد كتائب شهداء الأقصى في مخيم الأمعري والذي اعتقل عام 2004 وحُكم بالسجن مدى الحياة.. واليوم بات أحمد مع رمزي في ذات السجن، ويتقاسم معه الأحكام المؤبدة بتهمة حب الوطن ومقاومة الاحتلال.