على بضع كيلومترات شرق قلقيلية، تقع بلدة عزون: بلدة لا تختلف في تاريخها النضالي عن غيرها من بلداتنا المحتلة، فمع اقتحام الجيش تترصع سماؤها بالحجارة وتستتضيء حاراتها بنيران عجل الكوشوك لتجتمع هذه النيران مع نيران الثائر الغاضب. أما النتيجة فهو قهر لذلك الجندي المدجج بالسلاح ليعود في اليوم التالي ويعتقل بعضاً من ساكني القرية، في محاولة لتقليل من وطأة القهر الذي لحق به.
لا يكتفي المحتل بهذا القدر فيلجأ إلى إغلاق مدخل البلدة الشمالي وينصب حواجز على مداخلها الأخرى، أما حجة ذلك فهي محاولة لكبح جماح الثائرين بالضغط عليهم من خلال تعطل مصالحهم ومصالح أهالي البلدة. ليس هذا فحسب وإنما تعطل مصالح القرى المجاورة لها، كون البلدة تشكل حلقة وصل تربط بين مصالح 30 ألف مواطن مع بعضهم البعض. فموقع البلدة الجغرافي يجعلها حلقة الوصل بين بلدات وقرى عدة.
لا جديد في الأمر تلك سياسة قديمة متكررة مع كل توتر للأحداث، في إحدى الأيام وأثناء عودتي من الجامعة جلست بجانبي فتاة، عندما رأت أن مدخل القرية ما زال مغلقاً بدأت بالدعاء على أولئك الشبان الذين يرشقون الحجارة، فهي لديها امتحان بحاجة لدراسة طويلة، وإغلاق البوابة يعني اللجوء إلى الطرق الإلتفافية والتي عادة ما يصاحبها حواجز وتفتيش للسيارات. تكمل هذه الفتاة شكواها فتقول ما الفائدة التي جنيناها من رمي الحجارة سوى الإغلاقات و"البهدلة".
في الواقع ليست هذه الطالبة هي الوحيدة التي تغضب من الإغلاقات والشبان الذين يرمون الحجارة، فالموظف الذي يضطر للخروج من المنزل أبكر من الأيام المعتادة ليصل في الموعد المحدد، وذاك مريض ..إلخ. فإذا ما قمنا بإجراء حسبة بسيطة للوقت الضائع في الطرق الإلتفافية، والأثر المادي والمعنوي، التفكير في هذا كله يدفعنا للتساؤل الإنكاري هل يستحق الحجر ما يتبعه من استجوابات ميدانية واعتقالات واقتحامات عشوائية؟!
الأمر يبدو كالسور الذي باطنه الرحمة ومن قبله العذاب. قبل أن نبدأ بالحديث عن أهمية التظاهرات ورمي الحجارة بإعتبارها أحد مظاهر الرفض لمحاولات فرض الأمر الواقع. لا بد أن نتخيل النقيض، ماذا لو لم تكن هذه التظاهرات موجودة؟ الإجابة ببساطة يعني الإعتياد على الوجوه الغريبة، فقد نصبح لا نستغرب من رؤية "شلومو" وغيره يفطرون في مطاعمنا. ومع التوسع المتواتر للإستيطان في محافظة قلقيلية بشكل عام، فعدم وجود راشقي الحجر يعني تسريع تنفيذ مخططات الإستيطان، إذن فوجود الحجارة في السماء يعني عرقلة وتأخير تلك المخططات. ولعل تجربة بلدة نعلين قضاء رام الله نموذج يُحتذى به في ذلك.
لا يكتفي البعض بالشكوى والتذمر من الحال، بل يضع نفسه في مكانة تسمح له بالتشكيك في النِيَّة لدى هؤلاء الشبان بالقول إنهم يخرجون متعمدين ذلك فيُسجنوا لفترة من ثم يخرج ويصبح يتقاضى أموالاً من هذا التنظيم أو ذاك، وآخر يصف هؤلاء الشبان بالفتية "دمهم حامي" الذين لا يُقَدرون فيندفعون دون التفكير بالعواقب.
أخطر ما في هذه الجمل أنها تقلل من قيمة العمل المقاوم، وهو ما يدفعنا للإستهانة بأي محاولة، بل وانتقاصها وانتقاضها. فالحجارة الزجاجات الحارقة في أكبر التقديرات تسبب جروحاً للجنود.
والبعض لا يجد غضاضة في التعبير عن هذه الإتهامات المُلقات جزافاً، وآخر قد لا يعبر عن ذلك صراحة إلا أن هذه الأفكار والحسابات لأثر الحجر الطائر تراوده أحياناً، وقد يطردها عندما يفكر بما يلقاه هؤلاء الشبان من تغييب عن ردهات المدرسة إلى سراديب السجن وأقبية التحقيق. . وآخرون شعروا بالإجابة، فهم يرون أن هذا الحجر مدفع يدافع به عمّا يُؤمن به. فمتى فُقد الإيمان فُقد الإنسان ومتى فُقد الإنسان فُقدت القضية والأرض. البعض منا من يدرك لغة الحجارة ومعادلاتها، فيقرأ ملامح حزنها عندما يدوس الجندي فوقها ويشعر بفرحها عندما ترتطم بوجه الجندي مسببة الإهانة له فبل الألم. هؤلاء هم الفتية الذين لا يفهمون أحياناً ما يجول في ساحات السياسة، إلا أنهم اتبعوا فطرتهم في حب الوطن، فتفجرت قلوبهم بحب هذا الوطن، فكانت النتيجة أن عَقِلت قلوبهم إلى أن المقاومة بالحجر طريق لتحرير العقل والأرض.