كان عام 2018 عام محاولة ترجمة قرار ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة للكيان الصهيوني، كان العام الأول منذ استكمال احتلال المدينة عام 1967 الذي تنكسر فيه –ولو جزئياً- عقدة المشروعية التي كانت إحدى العقد الكبرى أمام تهويد المدينة وتحويلها إلى أورشليم كما يحلم العقل الإحلالي الصهيوني. محاولة الترجمة هذه تركزت على خمسة مسارات:
المسار الأول: محاولة تغيير حدود القدس:
لم ينجح الاستعمار الصهيوني بفرض الأغلبية السكانية الصهيونية التي يتمناها، وما زال المقدسيون بحلول العام الحادي والخمسين لاستكمال احتلال المدينة يشكلون نحو 38% من سكانها بشطريها، ونحو60% من سكان الشطر الشرقي للمدينة؛ ولمغالبة ذلك يتطلع الصهاينة إلى تعديل حدود المدينة بإخراج أحياء ذات غالبية عربية مقدسية أبرزها كفر عقب ومخيم شعفاط، وضم ثلاثة كتل استيطانية هي جفعات زئيف شمالاً وأدوميم شرقاً وغوش عتصيون جنوباً.
مستفيدة من الغطاء الدولي الذي منحه قرار ترامب، بدأ التمهيد لتغيير الحدود بمذكرة "القدس الموحدة" التي أقرها الكنيست في 2/1/2018، وأتاحت توسيع حدود القدس بضم أجزاء من الضفة الغربية، وجعلت أي تنازل عن أجزاء من المدينة يتطلب أغلبية 80 نائباً، وتوجهت آلة الطرد العسكرية إلى الخان الأحمر لإخلائه مرتكزةً على هذا القرار، وبات الخان الأحمر بذلك رأس حربة المواجهة على تعديل الحدود.
بالمقابل تضافرت ثلاثة عناصر مهمة: رفض دولي واسع لضم كتلة أدوميم-التي يمهد لها إخلاء الخان الأحمر، وتمسك ورباط من أهل المنطقة من عرب الجهالين، وتضامن جماهيري أسهمت السلطة الفلسطينية في دعمه منطلقة من قراءة أن إخلاء الخان الأحمر يعني إنهاء حل الدولتين؛ وقد نجحت هذه العوامل في فرض التراجع على حكومة الاحتلال في 21/10/2018 رغم أنها كانت قد حصلت على قرار من "المحكمة العليا" الصهيونية بإخلاء أهالي الخان الأحمر بالقوة.
المسار الثاني: تهويد المسجد الأقصى:
كانت أجندة تقسيم الأقصى ووضعه تحت الإدارة المباشرة لسلطات الاحتلال قد تلقت ضربةً كبيرة أعادتها للخلف في هبة باب الأسباط شهر 7-2017، أي قبل قرار ترامب بخمسة أشهر، وبعد القرار حاولت الحكومة الصهيونية وجماعات المعبد استعادة الزخم لهذه المطالبات عبر وضع باب الرحمة والجهة المقابلة له من ساحة الأقصى تحت أجندة الاستهداف، وتعزيز ذلك باستهداف مقبرة باب الرحمة من خارج السور، تمهيداً للانتقال نحو التقسيم المكاني حتى وإن كانت السيطرة الصهيونية على إدارة المسجد لم تتحقق، وكان هذا أحد المسارات المبكرة لاستثمار قرار ترامب إذ بدأ بعد قرار ترامب بأيام، وعاد إلى الواجهة عدة مرات بدءاً من شهر 3-2018.
قوبل هذا التوجه بيقظة فلسطينية عالية، إذ قرأته الجماهير كما الهيئات والمؤسسات، واستثمر المصلون قيامهم في ليلة الثالث والعشرين من رمضان بتأهيل الجهة الشرقية من ساحة الأقصى للمصلين، وجمعوا الردم في تلتين مؤهلتين للصلاة، وأقاموا خيمة للاعتكاف باسم الشهيدة رزان النجار في رسالة مهمة لجماهير غزة التي كانت تخوض ملحمتها لحماية خيار المقاومة. أثار هذا التحرك الاستباقي حنق السلطات الصهيونية وجماعات المعبد المتطرفة، فوضعت قوات الاحتلال نقطة مراقبة دائمة فوق باب الرحمة، وحاولت تخريب الإصلاحات، واعتقلت المصلين والمتعبدين الذين يقصدون ذاك الجزء من الأقصى، وشدد المقتحمون الصهاينة عليه في أعيادهم ومارسوا فيه طقوسهم؛ لكن هذا الاستباق الشعبي حقق هدفه المنشود إذ فضح الهدف الصهيوني وأفقده عنصر المفاجأة، ورغم تطلع جماعات المعبد إليه وحديثها السابق عن اقتسام مكاني أو فرض بوابات إلكترونية متنقلة على أبواب الأقصى، إلا أنها لم تتمكن من الوصول لما تريد، وكان أكثر ما تمكنت من فعله هو محاولة الاستفراد بذاك الجزء من الأقصى خلال الأعياد اليهودية، وقد قوبل برباط محدود أفسد عليهم هذا الاستفراد رغم محدوديته.
المسار الثالث: محاولة تغييب الأونروا:
عقب قرار الرئيس الأمريكي وقف تمويل الأونروا نهاية 8-2018 رأت حكومة الاحتلال في ذلك فرصة مزدوجة لبسط نفوذها الكامل على مخيم شعفاط وهو جزء من حدود البلدية التي فرضها الاحتلال للمدينة ويعد أحد أكبر أحيائها ويضم 19 ألف فلسطيني، ولتقويض وجود الأونروا التي تحافظ بحضور علمها ومؤسساتها على حضور قضية اللاجئين في سماء مدينة القدس أمام زوارها من كل دول العالم، وهو عنصر "تنغيص" يحلم الصهاينة بشطبه من سماء المدينة.
تذرعت البلدية بجودة الخدمات، ونوعية حياة أهل المخيم، ووجدت بكل أسفٍ لها آذاناً صاغية أحياناً رأت في دخول البلدية "حلاً" لأزمة النفايات والخدمات في المخيم، وكأن بلدية الاحتلال جاءت فعلاً بقصد تحسين نوعية حياتهم، ووجدت من يقبل هدمها للمحلات في الشارع الرئيس للمخيم باعتباره كانت تسبب "اختناقاً مرورياً" على مدخله. وجدت سيارات البلدية في الوقت عينه من يدرك غايتها الاستعمارية ويرجمها بالحجارة ويلاحق دخولها، لكن هذا الارتباك الذي أسهمت فيه بعض "النخبة" من أبناء المخيم فوت فرصة سانحة لضرب مشروع بسط نفوذ البلدية وتقويض وجود الأونروا في المخيم، وهذا الارتباك ما زال من الممكن حتى اليوم تجاوزه.
المسار الرابع: استئناف الإخلاءات الجماعية:
يدرك المخططون الصهاينة محدودية الحضور السكاني الصهيوني في أحياء المركز التاريخي للقدس، ولحل هذه المشكلة بدأت محاولات الإخلاء الجماعي للأحياء بدءاً من إسكان الشيخ جراح شمالاً، وحي البستان جنوباً... وضمن استكشافها لإمكانات ترجمة قرار ترامب مهّد قرار "المحكمة العليا" في 21-11-2018 لإخلاء جماعي جديد في حي بطن الهوى في سلوان. محاولات الإخلاء السابقة واجهتها خيام الصمود والمبادرات الجماهيرية وحضور المتضامنين، ولم تتمكن حتى الآن من الوصول إلى نهايات قاطعة لصالح الاحتلال، وهي تجربة قابلة للاستنساخ في حي بطن الهوى، مع مواصلتها في بقية الأحياء.
المسار الخامس: تسريب العقارات: الحرب النفسية على المقدسيين:
خلال شهري 10 و11-2018 كثـفت الجمعيات الاستيطانية إعلانها لتسريباتٍ عقارية بدأت من عقار جودة الحسيني في عقبة درويش، ومن ثم استكملت بمجموعة عقاراتٍ في بلدة سلوان، وكان لافتاً حشد الإعلان عن تلك التسريبات خلال فترة محددة رغم أنها تسريبات استغرق العمل عليها سنواتٍ طويلة، وكان واضحاً أن هذا التكثيف يستقصد هزّ الصمود المقدسي وإشعار المقدسيين بانهيار حصونهم من الداخل، وبأن الصهاينة يخترقونهم من كل الجهات ويشترون منهم عقاراتهم برِضاهم.
قوبلت هذه التسريبات بتحرّك للسلطة الفلسطينية اتسم بالجدية في جزء منه بتدخلها في منع تسريب عقار لآل العلمي والقبض على عصام عقل -الوسيط الفلسطيني المشتبه به والحكم عليه بالسجن المؤبد نهاية العام- ثم جاءت حملة مقاطعة شعبية لجنازة علاء قرش أحد الضالعين في تسليم عقارٍ كانت عائلته تستأجره إيجاراً طويل الأمد في القدس، لتؤكد الالتزام بعهد القدس وميثاقها التي فرضت المقاطعة الاجتماعية على المتورطين، مستندة إلى فتوى علماء القدس في عام 1935 والتي أعيد تأكيدها مراتٍ عديدة.
الحرب النفسية على المقدسيين تشكل تفسيراً مهماً للسلوك الصهيوني في المدينة، فالمطلوب إسقاط جدران الصمود من الداخل، وإيهام الناس بأنه انتهى ولم يعد مجدياً، وأن الاستسلام أسهل لهم باعتبار النتيجة واحدة بكل الأحوال، لكن هذه الحرب على هذا الصمود هي بحد ذاتها شهادة بجدواه وأهميته، فلولا أنه بهذا التأثير والجدوى لما استحق كل تلك الحرب الممنهجة عليه. الرد الشعبي على هذه الحرب النفسية جاء كذلك خلال انتخابات بلدية الاحتلال في القدس، ورغم نجاح الصهاينة في إدخال "مرشح عربي" في المنافسة لأول مرة، إلا أن مشاركة المقدسيين في الانتخابات بالكاد وصلت حد 2%.
ويبقى الاختراق الأهم على هذا المسار في الجبهة الاقتصادية ببناء فرع متجر رامي ليفي في بيت حنينا، وافتتاح فروع لمحلات صهيونية في مولات فلسطينية وفي شارع صلاح الدين، وإذا ما كان المقدسيون أبدوا مناعة عالية للتطبيع السياسي، فإن المناعة تجاه التطبيع الاقتصادي تبدو أقل بكل أسف، رغم أنه يسعى لتحقيق الرسالة النفسية ذاتها بضرب جدران الصمود وتقويضها من الداخل.
في الخلاصة...
راوحت مسارات ترجمة قرار ترامب مكانها خلال 2018، واضطرت للتراجع والوصول إلى اختناقات في الخان الأحمر وفي المسجد الأقصى وفي الإخلاءات الجماعية، وأمام هذه المحدودية الميدانية تبدو الحرب النفسية هي الملجأ الأهم لإقناع المقدسيين والفلسطينيين بعدم استخدام ما في أيديهم من أوراق القوة، وأبرزها الرفض الجماهيري، وحين يفعل عدوك ذلك فهذا يعني أنه يخشى ما في يديك من أوراق، وأن أوراقك مجدية وقادرة على إيلامه، وإذا ما وصلنا لهذه النقطة من الإدراك يمسي طريقنا واضحاً، فالمطلوب هو الإصرار على استخدام أوراق القوة الجماهيرية، بل وتفعيلها أكثر.