شكلت مسيرة العودة حالة اشتباك مستمر ودائم عجز العدو ميدانياً وداخلياً وعلى كل الصعد التعامل معها، هذه الحالة أبرزت قيادة العدو على المستوى السياسي والعسكري أمام المجتمع الصهيوني بحالة من الضعف والتشرذم، وعدم القدرة على اتخاذ القرارات الحاسمة في التعامل مع القطاع، حيث ظهرت الخلافات للعلن وبشكلٍ فج بين وزراء "الكابينت".
قيادة الاحتلال أرادت تنفيذ عمل أمني صامت داخل حدود القطاع، قد يكون العمل متعلقًا بعملية اختطاف أو مهام استخبارية لإرباك الأمن الداخلي للقطاع، لكن يقظة المقاومة أفشلت مهمة العدو، وباعتقادي أن تبعات هذا العمل مازالت مستمرة لأن هكذا عمل يشمل قدرًا كبيرًا من المعلومات حول العوامل المسبّبة له، لكن الثابت بهذه العملية تحوَّلها من تهديدٍ تكتيكيٍّ إلى مشكلةٍ استراتيجيَّةٍ في ساحة المعركة نتيجة الإِخفاقات الاستخباراتيَّة، والفشل في اتّخاذ القرار، والإخفاق الأهم في العملية يتمثل في الفشل الذي يعاني منه الجيش وهو التنفيذ الميداني في المواجهة العملياتية المباشرة مع المقاومة، وأن الجندي غير قادر على تنفيذ ما تدرب عليه واستعد له، وهوما يثير الشكوك في إمكانية خوضه مواجهة مفتوحة مع المقاومة وذلك سيبعد عن غزة شبح الحرب.
المقاومة أثبتت في كلِّ المراحل قدرتَها على مفاجأة العدو ويقظتها واستعدادها وأنها في حالة دفاع عن النفس وتقوم بواجبها في رد العدوان عن شعبنا، ولديها الشجاعة والجرأة على الرد على عدوان الاحتلال وتثبيت المعادلات التي رسختها بالميدان، وقدرتها على تحطيم رغبة العدو بالاستمرار بالعدوان على شعبنا وأنها قادرة على تحقيق المفاجأة والمحافظة على زمام المبادرة.
المبادرة بالرد وتكتيكاته الميدانية:
بعد العدوان الصهيوني في خانيونس، أكدت المقاومة الفلسطينية من خلال غرفة عملياتها المشتركة، على أن الاحتلال يتحمل المسؤولية وتبعات هذا الفعل العدواني وكان واضحاً أن تبعات هذا العمل سيكون له ارتدادات ميدانية والمقاومة لن تمرره بدون رد، وكان رد المقاومة باستهداف حافلةٍ صهيونيةٍ تقل عدداً من جنود الاحتلال في منطقة أحراش "مفلاسيم" شرق جباليا بصاروخٍ موجهٍ من طراز "كورنيت"، ما أدى إلى إصابتها بشكلٍ مباشرٍ واشتعال النيران فيها ومقتل وإصابة من كان بداخلها، وكانت هذه العملية إيذانا ببدء عملية الرد بالقذائف الصاروخية وتم تنسيق عملية إطلاق القذائف في جميع أنحاء قطاع غزة من الشمال الى الجنوب، رد المقاومة كان له العديد من الدلالات منها :
- تطور الأداء العسكري للمقاومة الفلسطينية الآخذ في التصاعد بصورة متسارعة أربك حسابات العدو الصهيوني، وجعل قادة جيش الاحتلال يعدّون للألف قبل أية عملية عسكرية يُقْدِمون عليها، إن الكفاءة القتالية والاستعداد القتالي الذي برز في استهداف الباص يوصل رسالة للعدو أننا قادرون ونستطيع فعل أكثر مما حصل.
- أوضحت عملية استهداف الحافلة أن الذي تم جاء ضمن استراتيجية المقاومة في ردع العدو لمنعه من الفعل الحربي، خوفاً من استعدادات ومفاجآت المقاومة وقدراتها غير المعلومة للعدو.
- يدلل ما حدث على أن المقاومة باتت تمتلك تصورًا واضحًا ودقيقًا لإدارة المعركة من خلال تحديد الهدف وما صاحب ذلك من جهد استطلاعي ودقة في الاصابة مصحوب بتصوير شامل للهدف وما حوله ومعرفة الثغرات لدى العدو وطبيعة عملها وأهدافها.
- توثيق وتصوير العملية بهذا الوضوح التي تظهر تحركات العدو وقواته تُعد إبداع وتطور في الإعلام العسكري للمقاومة وأنه أحد أركان المعركة، من خلاله يتم ضرب الجبهة الداخلية للكيان في الصميم، ومن خلاله ويظهر البطولات التي يسطرها المقاومون بالميدان وهو ما أكسب الاعلام العسكري هيبة ومصداقية عالية لدى الجماهير الفلسطينية.
الصواريخ سلاح الردع الفلسطيني:
أكدت هذه الجولة العسكرية أن سلاح الردع الأساسي الذي تمتلكه المقاومة الفلسطينية لمواجهة الكيان الصهيوني هو سلاح الصواريخ، وأن المقاومة أدركت أن "إسرائيل" عاجزة عن التعامُل مع القوّة الصاروخية، وجهزت نفسها بالصواريخ والقذائف، للحد من قُدرات الجيش الإسرائيلي، لعلمها بالفجوات في تجهيز الجبهة الداخلية الإسرائيلية للحرب لا تزال واسعة جداً، أوضح الميدان أن إسرائيل عاجزة عن التعامل مع القوّة الصاروخية، وفشلت منظومة القبة الحديدية في التصدي لصواريخ المقاومة حيث لم تتمكن منظومة "القبة الحديدية" الدفاعية من مواجهتها، مما يؤكد عجزها عن التصدي الكامل للصواريخ والقذائف الفلسطينية.
كشفت هذه الجولة أن التهديد على الجبهة الداخلية "الإسرائيلية"، وغلاف غزة بات أخطر بكثير مما يتوقع الاحتلال، والسبب الأساسي لذلك ليس زيادة كميات الصواريخ وقذائف الهاون، التي يمكن أن تسقط على "إسرائيل" بل الفعالية القاتِلة لهذه النيران، نتيجة لذلك، فإن الخسائر والأضرار التي لحقت بغلاف غزة، والتي ستلحق بالجبهة الداخلية المدنية والعسكرية لـ ”إسرائيل” إن تمادت قد تزيد مئات الأضعاف، استخدام القوّة الصاروخية للمقاومة أتاح للمقاومة العديد من المزايا خلال المعارك:
- خلال فترة قصيرة من الوقت يتم اتّخاذ قرار الإطلاق وفق تخطيط المهام والوقت المناسب.
- ليس هناك أهمية للطقس أو الليل والنهار في عمليات الإطلاق.
- تخزين وتشغيل أنواع مختلفة من الصواريخ من مواقع صغيرة، مُموّهة، أو من المركبات.
- الدقّة تعتمد على نوعية النظام، أي الصواريخ غير الموجّهة أو الصواريخ الموجّهة.
- الوقت القصير بين الإنذار والإصابة له تأثير عملياتي (القليل من الوقت للبحث عن مأوى)، ولديه التأثير النفسي.
- غرفة عمليات المقاومة المشتركة زادت من القدرة التشغيلية وتنسيق عملية إطلاق القذائف في جميع أنحاء قطاع غزة من الشمال إلى الجنوب، المقاومة تتفهم المشكلة التشغيلية لتشغيل الخلايا البشرية، ولهذا السبب قامت ببناء شبكة إطلاق صواريخ عن بعد متصلة بشبكة أنفاق واتصالات، يتم نشر قاذفات أسلحة مختلفة (صواريخ وقذائف هاون وغيرها) على طول حدود قطاع غزة بالكامل بطريقة مخفية، مع وجود آلية برمجة خاصة لعملية الإطلاق وكل القاذفات متصلة بمراكز وغرف عمليات في قطاع غزة.
جدوى العمل العسكري المشترك:
شكل العمل العسكري المشترك موقعاً متقدّماً في تكتيكات الفعل العسكري للفصائل الفلسطينيّة، وتكمن أهميّته في تحقيق أوسع قاعدة فصائليّة شعبيّة داعمة للمقاومة المسلّحة، ودمج كلّ القوى فيها، بما يعنيه ذلك توافر أغلبيّة جماهيريّة تتبنّى هذا الخيار كمشروع مشترك، أعطى ذلك عمقا أكبر للفصائل المسلحة في تبنى خططا جديدة لمواجهة الجيش الإسرائيلي، أحدثت نقلة نوعية في طبيعة العمل المقاوم، على عكس ما كان يجري في السابق، فأصبحت الغرفة العسكرية المشتركة للمقاومة هي المسؤولة عن تنظيم إدارة وتوجيه العمل العسكري للمقاومة , ولها أهمية كبيرة في تحقيق النصر ونجاح العمليات العسكرية للمقاومة.
بعد هذه المواجهة ثبت أن الاحتلال يفتقد للرؤية الواضحة في التعامل مع غزة ومقاومتها، وكان إخفاقه في هذه المواجهة مركباً سواء بالجانب الاستخباري أو العملياتي، ذلك رسخ قاعدة أن غزة ليست كأي مكان في هذا العالم وغير مسموح بهم العبث بأمنها، كما أكدت هذه المواجهة أن المقاومة الفلسطينية ترتقي وتتطور، وتستوعب الدروس الماضية، لذلك عمدت إلى تغيير تكتيكاتها في المواجهة، مما أدى إلى تراكم نجاحات المقاومة واكتسابها الخبرة والإمكانات، وتغيير قواعد المواجهة مع العدو، برز فيها معرفتها المسبقة بالبيئة العملياتية وبطبيعة العدو، كما امتلكت الوحدات متنوعة المهام التخصصية والاحترافية، والإجادة التامة للعمل العسكري في ميدان المعركة، وإثبات القدرة والكفاءة بالرغم من أن موازين القوى ليست متكافئة بين جيش الاحتلال، هذا الأداء أربك جيش العدو، واحدث الاضطراب المطلوب لدى قياداته، فما قامت به المقاومة شكل مَعْلماً جديداً يؤسس لمرحلة تصاعدية من الاحتراف والارتقاء بالعمل العسكري ينبئ لنا بأمل ومستقبل واعد نحو تغيير جذري في الصراع مع العدو الصهيوني.