بعد جولةٍ في خربة سبّة (متسادا عند الصهاينة)، توغّلتُ عصراً في وادي سيّال المهيب الذي يمتدُّ بطول 36 كم من تل عراد ويصبُّ في البحر الميت عند منطقة اللسان. وهكذا وبدون مقدّماتٍ، كان اللقاءُ بذئبٍ يخطو مُسرعاً نحو الشرق، سحرني هذا اللقاء، وحضرتْ دفعةً واحدةً كلُّ أشعار العرب حول لقاء العربيِّ الوحيد بالذئب وحيداً في صحراء الغربة والقلق.
عدتُ بعد يومين إلى الوادي حاملاً معي اللحم، مُردّداً أبياتاً من قصيدة الفرزدق "وأطلسَ عسّالٍ" التي حفظناها في المدرسة، طامعاً في لقاءٍ أسطوريٍّ، وضعتُ اللحم مكشوفاً على صخرةٍ، وابتعدتُ أرقُبُه من بعيدٍ، وانتظرتُ، وانتظرتُ حتى طلعت النجمة، ولم يأتِ الذئب! لملمتُ خيبتي وعدتُ إلى البيت. في ذلك المساء، بدأتُ رحلتي الطويلة في "الركض وراء ذئاب فلسطين" … هذه بعضٌ من يومياتها.
عن العربيِّ وذئبه
يحتلّ الذئب موقعاً مُميزاً في الأدب والتراث العربي، فتعدّدت كِناه وأسماؤه وأساطيره، وراقبه العرب وتعرّفوا إلى صفاته الجسدية، ووصفوا كلّ عضوٍ من أعضاء جسده، فقالوا في وصف أطرافه أنّه عاري الأشاجع: بروزُ عروق يديه ورجليه من الهُزال. حتى وصل بهم الهوس به إلى تفحّص رجيعه. خلعوا عليه صفة الريح، فيقولون تذاءَبت الريح؛ أي يجيءُ من ههنا وههنا، فيُتخيل أنها عدّة ذئابٍ من أكثر من جهةٍ، ليحسبه الناظرُ أكثرَ من واحدٍ. وسمُّوه بما لا تعدُّ من الأسماء، منها ابن الأرض وسيّد الرمل، والسرحان والأطلس؛ أيّ الأغبر. ولكلِّ اسمٍ تعبيرٌ عن صفةٍ مميزةٍ رأوها فيه.
ولعلّ ما قصدوه بالسبع هو الذئب حصراً، ووصفوا صفاته الخُلقية، وتعرّفوا إليها بالمعاشرة؛ فلم يقنع العربيُّ بمراقبته ووصْفه، فطمع بمصاحبته، ليوقد ناره ويقتسم معه طعامه الشحيح، وخاصّةً "ذؤبان العرب"؛ أيّ الصعاليك الذين لبسوا فراء الذياب، واعتبروه أخاً لهم في الجوع والقنص؛ فالجوع صفةٌ لازمةٌ للذئب العربيِّ "أخو قنصٍ يُمسي ويُصبح مُقفِراً" (النابغة الجعدي). وقال عنه الطرماح: "أخو قفرةٍ يضحى بها ويجوع"، وقالت العرب: "أجوعُ من ذئبٍ"، لأنّه دهره جائع. كما رأوا فيه مخلوقاً قلقاً دائمر اليقظة؛ فهو طريد الإنسان، ومُتيقّظٌ للقنص في الوقت ذاته، فقالوا: "ينام الذئب بإحدى مُقلتيه"، ومثل ذلك ما قاله بدو النقب شعراً:
واسهر لمّا الليل يَبرد نسيمه
وأنام نوم الذيب في أرض المخافات
وإن كانت الذئاب أكثر الحيوانات اجتماعيةً، إلا أن طلب القوت الشحيح في الصحراء أجبرها على الصيد متفرقةً وحيدةً، ولهذا كان لقاء شعراء العرب دوماً بذئبٍ وحيد:
لقيت عليه الذئب يعوي كأنّه خليعٌ خلا من كل مالٍ ومن أهل (امرؤ القيس)
وعندما أدار الشنفرى ظهره لقومه، متمرّداً عليهم، اتخذ من حيوانات الصحراء أهلاً، وعلى رأسها الذئب:
لَعَمْرُكَ مَا بِالأَرْضِ ضِيقٌ على امْرِىءٍ سَرَى رَاغِبَاً أَوْ رَاهِبَاً وَهْوَ يَعْقِل
وَلِي دُونَكُمْ أَهْـلُـون: سِيـدٌ عَمَلَّـسٌ وَأَرْقَطُ زُهْلُـولٌ