ذات ليلة باردة من ليالي الانتفاضة الأولى جرى اعتقال شاب من أبناء تنظيم فتح لنرمز إليه باسم "ع"، كان ع قد عرف في حياته معتقلات قلقيلية وأنصار3 والفارعة ونابلس وعتليت وطولكرم.
وقضى فيها، منذ مراهقته، أياما طويلة بل إنه كان يلتقي بإخوته في سجون الاحتلال الإسرائيلي لمدد أطول من تلك التي كان يلتقي بهم فيها على مائدة العشاء أمام المسلسل الأردني في منزل العائلة، اقتيد الشاب، في مرّة الاعتقال تلك من المنزل إلى الجيب، ومن الجيب إلى غرفة التحقيق، ومن غرفة التحقيق إلى النظارة، ومن النظارة إلى المحكمة العسكرية، ومنها نحو سجن طولكرم.
وأمام باب السجن، قال له ضابط مخابرات السجن ساخراً: ادخل إلى أصحابك في "الإنتِ.. فوضى" فتوقّف الشاب الذي كانت قيوده قد فكّت قبل قليل، ورفع نظّارته بإصبعه، بحركة مسرحية ليصحح الضابط: "اسمها انتفاضة" - انتفوضى - انتفاضة - انتفوضى انتفاضة كما هو متوقّع، انشغل الاحتلال، كعادته، في تصحيح الأخطاء اللغوية لدى الضيف الجديد بطرائق معروفة جيداً.
وبعد أن انتهى النقاش بالتعادل السلبي، دخل الشابّ محمّلاً إلى رفاقه في السجن، وهو مصر، لسبب غريب، على أن اسمها انتفاضة لطالما ظلّ مصطلح "فوضى" تعبيراً عن توصيف " العقلية الأمنية الإسرائيلية" لما يحدث في الأرض المحتلة.
فمقابل "فرض النظام العام" في بيانات الناطق بلسان جيش الاحتلال الإسرائيلي هنالك "حوادث إخلال بالنظام العام" (تحدث حوادث الإخلال بالنظام العام، أحيانا، في مناطق A، أمام ناظري شرطة السير، ومفتشي بلدية رام الله، وقوات أمنها الوطني على أراض خاضعة لسيطرة هؤلاء، فيضطر الاحتلال لفرض النظام في مناطق سيطرة السلطة، وقديماً قالت العرب: (الصديق وقت الضيق)
ولنعد إلى الشاب ذي النظارات، سأقول لكم أمراً: هذا الشابّ قد مات شاهدّته في العام 2006، في جامعة بيت لحم جاء باص من جامعة النجاح، رؤوس ملفوفة بعصبات الكوفية، (لم يكن اللون الأصفر قد تم اختراعه بعد) وكان ذلك الشاب من ضمن القادمين في الباص. هاتفاً ومبحوحاً وسعيداً إن كنتم تتساءلون عن سبب إشارتي إلى ذلك الشاب بتوصيف "ع"، فالسبب بسيط لقد صار لاحقاً عضواً في الجهاز الأمني الفلسطيني، وصار يبحث، بنظارته تلك، عن مواطن "الفوضى" لكي يقوم بإصلاحها.
هكذا يتساقط البشر ويفقدون قدرتهم على الرؤية، ولن تفلح أية نظارات في العالم، في إصلاح أبصارهم، هكذا يموتون باختصار الكثير من هؤلاء الميّتين يكفّنون ببزّة عسكرية، ويواصلون عملهم كالمعتاد بين ظهرانينا جميعنا يعرف على الأقل دزّينة من هذه الجثث التي كانت فيما مضى، رفيقة قيد، وشريكة اشتباك، وزميلة دراسة.
هاجمت تلك الجثث الهائجة، على مدار أعوام طوال، قرى ومخيمات الضفة الغربية، حينما أطلق عقداء الدوريات المشتركة، ذوي الشوارب، خرّيجي صفحة الأبراج في مجلّة عبير، حملاتهم ضد "فوضى السلاح" في الضفة الغربية.
حينذاك، قامت قوات"الأمن" "الفلسطينية"بمحاصرة قرى كاملة، ونبش محتوياتها وخلط زيتها بطحينها كما يفعل غزاة بأرض استباحوها، كان هؤلاء يمهدون الطريق، بالذات، أمام اعتقال عمر الكسواني، وللدخول إلى شقة باسل الأعرج في البيرة،كان هؤلاء يمهدون الطريق لـ "النظام".
وعليك أن تسير بنفسك في شوارع الضفة الغربية لتسأل نفسك : أي نظام حقّقه "النظام" في فلسطين؟ أية فوضى أزالها أبناء هذا النظام؟ إن كل ما فعله أبناء روابط القرى، منذ إعادة إحيائها في الضفة الغربية وغزة، كان تمهيد الأرض لأمر وحيد: لفوضى السلاح الإسرائيلي.
هذا إلا إن اعتبرت بلدية رام الله أن الرصاصات التي أطلقها شركاؤها في التنسيق المقدس يوم أمس في بيرزيت، كانت في إطار فعاليات الاحتفاء بيوم المرأة، الإخلال بما يشبه توازن رعب ولكي نتحدث أكثر عن توازن الرعب المفقود، عليكم أن تسألوا الفلاحين في قرية جيت مثلا، عن تغير طباع المستوطنين، الذين كانوا في بدايات التسعينيات يتحصنون وراء الأسوار، وصاروا اليوم يفرضون سطوتهم على جميع الأراضي المحيطة بالقرية، يكسرون عظام الرعاة، ويهاجمون أطراف البلدات، ويحطمون في طريقهم النوافذ والسيارات وكل ما تقع عليه أبصارهم.
أية فوضى قضى عليها أبناء الروابط، طخّيخة الأعراس والانطلاقات والاحتفاء بنتائج انتخابات بيرزيت، أو الاحتجاج على نتائج انتخابات بيرزيت؟ أية فوضى جرى اجتثاثها على يد هؤلاء؟ لا تزال أسلحة هؤلاء أنفسهم تنطلق في الأعراس، وفي حضور المراسلين الإسرائيليين، وفي الخلافات الزوجية، وإن اعتبرنا كل ما ذكر سالفا فوضى، فهي فوضى لا تقاس بفوضى سلاح المستوطنين الذين، بحماية بنادق العوزي والإم ستة عشر، يقومون يوميا بتقويض كل ما تبقى من مظاهر حياة اجتماعية آمنة في ريف فلسطين.
ويلتهمون، تحت سطوة مسدساتهم وبنادقهم، ما تبقى من أرضنا، هكذا مثلا، ينتزع السلاح من الفقراء، ويظل في أيدي دواعش المستوطنات، المراهقين من ذوي الشعور المرسلة الذين يسترجلون على عجائزنا. هكذا يُطلق على المسألة برمّتها توصيف "قضاء على الفوضى".
لا يا سادة، إنها عملية تركيع، لا أقلّ، الجثث ذات البزّات العسكرية، تقوم بتكبيلنا وتهيئتنا للركوع، لا أقل هذا هو دورها، كلّما هطل الثلج لساعة أو ساعتين فوق رام الله، يتقافز هؤلاء لكي يقفوا أمام سنتمتر من الغبش الأبيض في الشوارع، وتقوم مديرية "التوجيه الوطني" بنشر صورهم على الفيسبوك لكي نقول "لله درّ هؤلاء إنهم يسهرون في الليل ويقفون في الثلج لكي ننام بأمان، بانتظار المستعربين.
في كل موسم زيتون، يبحث هؤلاء عن شجرة ما يتسلقونها كماعز الجبال، بكل قيافتهم العسكرية، لكي يرسلوا بطاقة حب وأمان وسعادة وحبور وما شئتم من أوصاف: هؤلاء يساعدونكم في قطف الزيتون (وأنا والله لا أعرف إن كان فلّاحو قرية الجانية مثلا، الذين يهاجمهم المستوطنون في كل موسم زيتون، قد رأوا جثثا بملابس عسكرية وطنية، أثناء موسم سكب الدم على غراس الزيتون. صحيح أنهم يرون نجوما، لكنها ليست النجوم التي على أكتاف العقداء، بل هي نجوم الظهر).
هؤلاء، بعد انفضاض موسم الزيتون، وموسم الثلج، وموسم "أبوي أشرف منكم كلكم" يعودون ليمارسوا المهنة الوحيدة التي تدربوا عليها بكلاشينكوفات مصنوعة من خشب لفنون الحياكة والفيسبوك ومراقبة تليفونات المراهقين وتنظيم بسطات الخضار في حسبة رام الله: القضاء على الفوضى. القضاء علينا! بعد القضاء على "فوضى السلاح" صارت مشاغل الخراطة اليدوية المعدودة هدفا سهلا لـ "الشين بيت".
صار الكارلو الرديء، حديدنا الوحيد في مواجهة الإف ستة عشر. ولا يهم كل هذا: يكفينا أن يطل علينا عدنان الضميري بكل نياشينه من شاشة اليوتيوب فيملأ علينا الجوّ فرحة، قبل أن يدخل المستوطنون، وقبل أن يدخل المستعربون، تحت حماية السلاح الشرعي الوحيد إلى غرف نومنا وجامعاتنا وتحت أجفان أطفالنا.
إياكم أن تضيّعوا البوصلة: سلطة العار، حاملة السلاح، صاحبة "التمكين" هي من كنس الطريق من الغبار أمام المستعربين بالأمس، وعلى مدار الأعوام الطويلة الماضية. ولو كان الاحتلال يعلم أن هنالك احتمال لوجود مسدّس واحد قميء على خصر مطلوب واحد في مداخل بيرزيت، لما جرؤ على إرسال شلة مسترجليه المراهقين إلى الجامعة.
لكن الاحتلال يعلم أن من يحمل السلاح في رام الله كلها، مسترجل، ويعلم أن حتى السلاح في إيد الشو إسمه لا يجرح، لأن البني الداكن، والزيتي الداكن، الذي يرتديه هؤلاء، يحيل فورا، في الذهن، إلى أن السلاح في يد الشو إسمه (مرة أخرى) لا يجرح، سوانا.