بعد مرور أكثر من شهر على قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب بالاعتراف بالقدس عاصمة لدولة إسرائيل، انعقد المجلس المركزي لمنظمة التحرير الفلسطينية من أجل الرد. ورغم أن الاجتماع كان مناسبة طيبة للتعبير عن الغضب الفلسطيني، فإنه لم يسفر عن أي نوع من تغيير السياسات. يأتي هذا في حين تستمر المطالبات بالتخلي عن استراتيجيات التفاوض القديمة من أجل مسار جديد يقوم على إعادة النظر في تركيبة منظمة التحرير الفلسطينية، ومن أجل أن تصبح هذه الأخيرة تجميعة ديمقراطية تشمل -حقيقةً - جميع الأطياف السياسية والاجتماعية الفلسطينية.
عُقِدَ المجلس المركزي الفلسطيني بعد حوالي أربعين يومًا من قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، والشروع في عملية نقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس. تعكس قرارات المجلس رفضًا فلسطينيًا عارمًا لهذا القرار، لدرجة اتخاذ قرار فلسطيني بعدم استقبال نائب الرئيس الأميركي مايك بنس أثناء زيارته إلى المنطقة، وعدم الموافقة على استمرار لعب الإدارة الأميركية دور الراعي والوسيط في العملية السياسية.
رغم ذلك ثمة عوامل تظهر عدم توفر النية لاعتماد مسار جديد، واستمرار الرهان على إمكانية تحسين شروط المسار القديم، ومنها: عدم دعوة المجلس المركزي للانعقاد فورًا، وعدم اجتماع اللجنة التنفيذية للمنظمة إلا عشية عقد اجتماع المركزي، وعدم دعوة الإطار القيادي المؤقت للمنظمة - الذي شكل بعد “اتفاق القاهرة” 2011، وحددت له صلاحيات أساسية ليقود المنظمة خلال فترة انتقالية تنتهي بعقد مجلس وطني توحيدي، ويضم اللجنة التنفيذية والأمناء العامين للأحزاب والفصائل المنضوية وغير المنضوية في إطار المنظمة، بما فيها حركتا فتح وحماس، ورئيس المجلس الوطني، وشخصيات مستقلة- وعدم عقد الاجتماع خارج فلسطين في بيروت استجابة لاستعداد رئيس مجلس النواب اللبناني، أو في القاهرة، أو في رام الله مع ربط إلكتروني مع غزة وبيروت لتمكين أعضاء المركزي الذين لا تسمح لهم سلطات الاحتلال بالحضور، وهم لا يقتصرون على قيادات الفصائل في إطار منظمة التحرير، مثل نايف حواتمة، أمين عام الجبهة الديمقراطية، وأحمد جبريل، أمين عام الجبهة الشعبية - القيادة العامة، بل يشمل ذلك رمضان شلح، أمين عام حركة الجهاد الإسلامي، وإسماعيل هنية، رئيس المكتب السياسي لحماس.
صفعة القرن
إن كل ما سبق يدل على أن القيادة الفلسطينية، وعلى رأسها الرئيس محمود عباس، رغم غضبها من القرار الأميركي، ومع اقتناعها أكثر وأكثر أن ما تسمى “عملية السلام” وصلت إلى طريق مسدود، وأن ما تسمى “صفقة القرن” ما هي سوى صفعة القرن، و“لن نقبلها” كما شدد عباس في خطابه في افتتاح المجلس المركزي، إلا أنها تقرأ المعطيات المحلية والعربية والإقليمية والدولية قراءة غير دقيقة ،فهي لا تراهن على الشعب الفلسطيني واصراره على الكفاح لتحقيق حقوقه واهدافه ،ولا تعول على الرفض العربي والعالمي الواسع جدا للقرار الأمريكي لدرجة كان الموقف الامريكي معزولا في مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة،ومرفوضا من الجامعة العربية والقمة الاسلامية ومن الرأي العام الدولي في مختلف أنحاء الكرة الأرضية،فهي تتجاهل كل ذلك رغم الإشادة به صباح مساء بدليل أنها لا تبني على ما تقدم ولا ترى إمكانية عملية لإقامة بديل عن مسار التسوية التفاوضية.
لذا اقتصر الموقف الفلسطيني على رفض الرعاية الأميركية للمفاوضات، ولكنه تمسك بعملية السلام مع المطالبة بكسر الاحتكار الأميركي لها، و“تفضيل” أن تكون في إطار مؤتمر دولي وضمن صيغة تعددية على غرار صيغة (خمسة زائد واحد) التي توصلت إلى اتفاق حول البرنامج النووي الإيراني.
للبرهنة على ما سبق ولإظهار أنّ عباس أبقى الباب مواربًا أمام التسوية التفاوضية، نورد تجنب القيادة الفلسطينية إعطاء الأولوية لتحقيق الوحدة الوطنية على أسس كفاحية، مع أنها الرد الفعّال على المخاطر التي تكمن في الشروع في تنفيذ المخططات الأميركية والإسرائيلية الأخيرة الهادفة لتصفية القضية الفلسطينية، وكما يدل على تجنب اعتماد مسار جديد دعوة القنصل الأميركي العام لحضور افتتاح اجتماع المجلس المركزي، وعدم قطع العلاقات الأميركية الفلسطينية كما ظهر بعودة ممثل المنظمة في واشنطن لممارسة عمله، بذريعة أنه سيهتم بالقوى والحركات المجتمعية الأميركية غير الرسمية.
قرارات غير قابلة للتنفيذ
وعند الوقوف أمام قرارات المجلس المركزي، نجد أنها تنقسم إلى قسمين:
القسم الأول: قرارات قابلة للتنفيذ، مثل استمرار إستراتيجية التدويل التي تتضمن اللجوء إلى المؤسسات الدولية لاتخاذ قرارات تدعم الشعب الفلسطيني، من نوع تجديد طلب الحصول على العضوية الكاملة لدولة فلسطين، والانضمام إلى منظمات دولية جديدة، وتوقيع المزيد من الاتفاقيات الدولية، واللجوء إلى مجلس الأمن والجمعية العامة لصدور قرارات جديدة، أو لتطبيق القرارات التي صدرت لدعم القضية الفلسطينية والتي وصلت إلى 86 قرارًا عن مجلس الأمن و750 قرارًا عن الجمعية العامة وأكثر من 100 قرار عن المجلس العالمي لحقوق الإنسان. ويندرج ضمن القرارات التي يمكن تطبيقها، ولو جزئيًا، قرار اللجوء إلى محكمة العدل العليا ومحكمة الجنايات الدولية، مع التردد في اللجوء إلى إحالة الجرائم الإسرائيلية إليها، واستمرار الهبة الشعبية، وربما تصعيدها من دون أن تصل إلى انتفاضة شاملة.
القسم الثاني: قرارات من الصعب أو من المستحيل تطبيقها بدون تغيير جوهري في السياسات وأشكال العمل المعتمدة، لأن تطبيقها سيقود إلى ردود أفعال إسرائيلية وأميركية، كوقف المساعدات الأميركية، وعدم تحويل العائدات التي تجمعها إسرائيل، وتقييد حركة المسؤولين وسحب الامتيازات التي منحتها سلطات الإحتلال لهم ، مثل قرار تعليق الاعتراف بإسرائيل إلى حين اعترافها بالدولة الفلسطينية، ووقف التنسيق الأمني، ووقف العمل باتفاقية باريس الاقتصادية، وتنفيذ الدعوة لمقاطعة إسرائيل وفرض العقوبات عليها، وتقديم طلبات إحالة إلى محكمة الجنايات الدولية حول الجرائم التي ترتكبها إسرائيل، وعلى رأسها الاستعمار الاستيطاني، وقتل الفلسطينيين بالجملة والمفرق، بمن فيهم الأطفال والنساء وكبار السن ... وغيرهم.
وما يدل على عدم النية لتطبيق هذه القرارات أن الصياغات التي تتضمنها قابلة لتفسيرات عدة أو إحالة تطبيقها إلى اللجنة التنفيذية لتحدد الوقت المناسب لتنفيذها. كما أنّ عدم تطبيق القرارات وارد تمامًا مثلما حصل مع قرارات المجلس المركزي في دورته السابقة في العام 2015 التي لم تنفذ وبقيت حبرًا على ورق.
ضغوط عربية ودولية
وما يجعل إمكانية عدم تطبيق هذه القرارات مرجحًا:
أولًا: عدم توفير متطلبات المسار الجديد، وعلى رأسها إنجاز الوحدة الوطنية الشاملة، بدليل أن موضوع المصالحة لم يأخذ الاهتمام الواجب، وتم الدعوة إلى مسار استمرار تمكين الحكومة، وإهمال المسارات الأخرى (الاتفاق على البرنامج الوطني، تشكيل حكومة وحدة وطنية على أساس تغيير وظائف السلطة والتزاماتها، إعادة بناء مؤسسات منظمة التحرير لتضم مختلف القوى، من خلال عقد اجتماع للقيادة الفلسطينية للتحضير لعقد مجلس وطني توحيدي، الاتفاق على أسس الشراكة السياسية، إجراء الانتخابات).
ثانيًا: أن الدول العربية نصحت القيادة الفلسطينية بعدم تحويل الرفض الفلسطيني المشروع للقرار الأميركي إلى حرب وعداء للولايات المتحدة، وأنه لن يستفيد منها سوى إيران ومحورها الذي أعاد تنظيم نفسه بعد التطورات في سوريا والعراق وترميم علاقات “حماس” مع إيران. كما نصحتها بانتظار الخطة الأميركية لعلها تتضمن تلبية لمطالب وحقوق الفلسطينيين، مع أن هذا القول مردود عليه لأنه الخطة/الصفعة التي تبدأ بابتلاع القدس لا يمكن أن تنتهي - إذا قدر لها النجاح - إلا بتصفية القضية الفلسطينية.
ثالثًا: أن الدول الأوروبية، وخصوصًا فرنسا وألمانيا وبريطانيا، وكذلك روسيا والصين، نصحت القيادة الفلسطينية بعدم إلغاء اتفاق أوسلو، والتمسك بحل الدولتين، وأن لا بديل عن الحل التفاوضي وعن الولايات المتحدة كراعٍ لعملية السلام، مع أهمية الدعوة الفلسطينية لرعاية متعددة لها. بل إن الرئيس الفرنسي مانويل ماكرون الذي اتخذت بلاده موقفًا متميزًا رافضًا للاعتراف الأميركي بالقدس، يقوم بوساطة لرأب الصدع بين السلطة والإدارة الأميركية، وقد أخبر عباس أثناء لقائهما في باريس بأن فرنسا لن تعترف بالدولة الفلسطينية خارج المفاوضات، لأن ذلك إجراء أحادي وغير مناسب، متناسيًا أن هذا الاعتراف ينسجم مع الشرعية الدولية التي اعترفت بالدولة كعضو مراقب، وأن البرلمان الفرنسي أوصى حكومته بهذا الاعتراف منذ 2014.
البحث عبثا عن “حل الدولتين”
إن الاعتراف بالدولة الفلسطينية، خصوصًا إذا جاء ضمن خطة فرنسية وأوروبية ودولية متعددة الخطوات، وتطبيقًا لسياسة فاعلة ثابتة، يمكن أن يحمي ما يسمى “حل الدولتين” من الانهيار التام، وما يمكن أن يؤدي إليه ذلك من تداعيات خطيرة على الأمن والاستقرار والسلام في المنطقة والعالم كله.
نعم. إن مسار حل الدولتين عن طريق المفاوضات الثنائية أو المتعددة، والرهان على الولايات المتحدة والمجتمع الدولي مات وشبع موتًا منذ ما قبل القرار الأميركي الأخير، وحتى قبل تولي ترامب سدة الرئاسة الأميركية؛ بسبب انحياز الإدارات الأميركية التاريخي لإسرائيل، والتعامل معها كدولة فوق القانون الدولي، بدليل أن الولايات المتحدة استخدمت الفيتو 43 مرة لصالح إسرائيل، ومنعت صدور القرارات الدولية تحت البند السابع الذي يعطيها قوة إلزامية.
ما يحصل الآن هو تحول إدارة ترامب إلى شريك كامل للاحتلال، فقد انتقلت من البحث عن تسوية ولو غير متوازنة ومنحازة لإسرائيل لتعمل معها لفرض الحل الإسرائيلي بالقوة، من خلال خلق الحقائق على الأرض، فكما قال ترامب في تغريدة ردد مثلها بنس عشية زيارته إلى المنطقة بأن قضية القدس أزيلت من مائدة المفاوضات، وجاري أيضًا إزالة قضية اللاجئين من خلال العمل على إلغاء الأونروا وتشجيع توطين اللاجئين وتهجيرهم إلى بلدان أخرى، مثلما يحدث مع اللاجئين الفلسطينيين في سوريا ولبنان، حيث هاجر مئات الآلاف منهم.
إن التخلي الفلسطيني الرسمي عن مسار التسوية التفاوضي غير مرجح، لأن 24 سنة من الدوران في دوامة البحث عن تجسيد لما يسمى “حل الدولتين” في نفس الوقت الذي فيه الأيادي الفلسطينية مقيدة بالقيود المجحفة لاتفاق أوسلو؛ أوجد قيادة لا تؤمن بخيارات أخرى، وتخشى من دفع الأثمان جراء ذلك، وهي مدعومة ببنية سياسية اقتصادية اجتماعية ثقافية أمنية، وأنتجت أفرادًا وشرائح نمت وازدادت نفوذًا وثروة في هذا الوضع ومن مصلحتها استمراره، هذا من جهة.
ومن جهة أخرى، أدى الانقسام الفلسطيني إلى تعزيز هذا الواقع، خصوصًا في ظل عدم قدرة “حماس” و“الجهاد” والقوى المناوئة لاتفاق أوسلو على شق طريق آخر وبلورة بديل.
شروط خلق مسار جديد
بل إن السيطرة الانفرادية لحماس على السلطة في غزة واستعدادها للانخراط في السلطة قبل تغيير وظائفها والتزاماتها؛ أدى إلى حرف الصراع، والمساهمة في إظهار أنه صراع على السلطة أكثر من كونه صراعًا ضد الاحتلال، وما رافق ذلك من تعثر إستراتيجية المقاومة العسكرية الأحادية جراء الاختلال الفادح في ميزان القوى ومن خلال الهدنة المفتوحة مع الاحتلال، الأمر الذي أوحى وكأنّ المقاومة أداة في خدمة الصراع الداخلي. إن المخرج الوحيد هو مغادرة الإستراتيجيات المعتمدة (إستراتيجية المفاوضات وإستراتيجية المقاومة الأحادية)، واعتماد إستراتيجية جديدة ضمن عملية تاريخية تستهدف توفير متطلبات المسار الجديد، ولو احتاج ذلك إلى وقت، لكي تعيد الاعتبار للقضية الفلسطينية باعتبارها قضية تحرر وطني، وللبرنامج الوطني: برنامج المساواة للفلسطينيين في أراضي 48، وحق العودة وتقرير المصير، الذي يشمل حق تجسيد الدولة والسيادة والاستقلال الوطني، وذلك من خلال العمل على تغيير موازين القوى، عبر الرهان على عدالة القضية الفلسطينية وتفوقها الأخلاقي، وعلى استعداد الشعب الفلسطيني لمواصلة الكفاح، والرهان على الشعوب العربية والإسلامية، وعلى كل القوى التي تؤمن بالعدالة والتحرر والتقدم والسلم في العالم كله.
إن هذا الطريق يستوجب إعطاء الأولوية لتوحيد القيادة والشعب والقوى على اختلاف أنواعها داخل المنظمة وخارجها. وحدة على أسس وطنية وديمقراطية توافقية وشراكة كاملة من دون تفرد ولا إقصاء ولا هيمنة لفرد أو فصيل أو مجموعة مراكز قوى، وعلى أساس قادر على إعادة بناء مؤسسات منظمة التحرير لتضم مختلف ألوان الطيف السياسي والاجتماعي الفلسطيني التي تؤمن بالشراكة.
إن هذا المسار الجديد ممكن أن ينجح، ولو بعد حين، لأن الوضع مرشح للمزيد من التدهور، ما يجعل التمسك بخيار تحسين شروط المسار القديم أصعب وأصعب، ويعطي مشروعية ومصداقية وقوة لشق مسار جديد يفتح الطريق لجعل السلطة نواة لتجسيد الدولة المتحررة من اتفاق أوسلو، وأداة لخدمة البرنامج الوطني تهتم أساسًا بالخدمات والإدارة، وتنقل مهامها السياسية للمنظمة، والمطالبة بقيادة النضال الفلسطيني لحماية القضية الفلسطينية من خطر التصفية، ومن ثم التقدم بعد ذلك لإنجاز الحقوق والأهداف الفلسطينية بتحقيق العودة والحريّة والاستقلال والمساواة.
وهذا البديل على الأرجح لن تأخذ به القيادة والقوى التي أوصلت الفلسطينيين إلى ما وصلوا إليه طواعية، وإنما بحاجة إلى تغيير وتجديد وإصلاح لها، وإلى نشوء تيار وطني عريض ثالث يكسر الاستقطاب الثنائي الحاد بين “فتح” و“حماس” ويحقق التوازن المطلوب.