يزداد توتر الوضع الميداني في قطاع غزة، وعلى حدوده مع "إسرائيل" يوما بعد يوم منذ أكتوبر/ تشرين أول الماضي، عقب القصف الصاروخي الإسرائيلي ردا على ما تقول "إسرائيل" إنها قذائف فلسطينية تنطلق من غزة، فيما تستمر المعدات العسكرية الإسرائيلية في عملها الدؤوب للكشف عن أنفاق المقاومة المنتشرة على طول المنطقة الشرقية للقطاع.
هذه التطورات تسلط الضوء على مدى إمكانية استمرار التوتر الأمني القائم في غزة بهذه الوتيرة، وهل ستتصاعد الأوضاع نحو مواجهة ضارية واسعة، وكيف تجري حماس دراستها للوضع وهي تحيي ذكرى انطلاقتها الثلاثين؟.
مؤشرات ميدانية ما زال الفلسطينيون والإسرائيليون يتذكرون ويلات الحرب الثالثة الأخيرة في صيف 2014، وقد عملت على استنزافهما على مختلف الصعد الأمنية والعسكرية والإنسانية، ورغم مرور أكثر من ثلاث سنوات على نهايتها، فهناك شكوك كثيرة حول مدى جاهزيتهما لاندلاع حرب رابعة جديدة، نظرا لتقديرهما أنها ستكون أكثر فتكا وأقوى شراسة، وأكثر كلفة بشريا وماديا.
لكن هذه القناعة التي تسود أوساطا واسعة في الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، لم تمنعهما من التقدم خطوات واضحة نحو تلك الحرب، وإن كانت بطيئة متريثة، عبرت بصورة أو بأخرى عن تآكل جدي في الردع الذي حققته "إسرائيل" خلال السنوات الماضية، ويمكن النظر لمؤشرات هذا التآكل عبر التطورات التالية:
1- إطلاق رشقات من القذائف الصاروخية الفلسطينية خلال الأسابيع الماضية، وبصورة شبه يومية، مما تسبب بإصابات بالهلع والخوف في أوساط المستوطنين، وعودة أجواء الحرب إليهم، من حيث بقائهم قرب الملاجئ ساعات وأيام، وصدور ردود فعل إسرائيلية تتهم الجيش بالضعف أمام الفلسطينيين، والعجز عن امتلاك رد حاسم لوقف هذه "التنقيطات" الصاروخية. 2- وصول المتظاهرين الفلسطينيين في الأيام الأخيرة إلى السلك الشائك على حدود غزة الشرقية مع الكيان، في مظاهرات شعبية عارمة احتجاجا على القرار الأميركي الخاص بإعلان القدس عاصمة لكيان الاحتلال، ورشق الجنود بالحجارة والزجاجات الحارقة، دون أن يفصل بينهما سوى عشرات الأمتار، رغم الاستهداف الإسرائيلي المركز للمتظاهرين بنيران القناصة.
3- عاشت "إسرائيل" شهرا كاملا في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي في حالة من الاستنزاف الأمني والاستخباري والعسكري عقب استهدافها لأحد أنفاق حركة الجهاد الإسلامي وما أسفر عنه من استشهاد أكثر من عشرة مقاتلين فلسطينيين، فقد هددت الحركة بالانتقام جراء العملية الإسرائيلية، وشهدت الحدود المشتركة بين غزة و"إسرائيل" انتشارا عسكريا مكثفا للجيش الإسرائيلي، وطلب المستوى السياسي في تل أبيب من نظيره المصري الضغط على الفصائل الفلسطينية لعدم الرد على ضرب النفق.
4- إعلان قوى المقاومة الفلسطينية، وعلى رأسها حركة حماس، أنها مستعدة لأي مواجهة عسكرية مع "إسرائيل"، رغم عدم مسارعتها لها، لكن البيانات والخطابات الصادرة عنها في الأيام الأخيرة أكدت لـ"إسرائيل" بما لا يدع مجالا للشك أن الحركة ربما غيرت رأيها في عدم رغبتها بتلك الحرب بعد أن أكملت جاهزيتها لها، لاسيما في ظل حشودها الضخمة خلال مهرجان انطلاقتها الأخير، حيث تزعم الأوساط الأمنية الإسرائيلية أن الحركة، وإن كانت ليس هي من يطلق الصواريخ الأخيرة على المستوطنات الإسرائيلية، لكنها تغض الطرف عن المجموعات المسلحة الصغيرة وتسمح لها بإطلاق تلك القذائف.
الكوابح الإسرائيلية ترقب "إسرائيل" عن كثب مؤشرات تآكل ردعها أمام الفلسطينيين في غزة، رغم سيل التهديدات والوعيد التي أصدرها جميع القادة السياسيين والجنرالات العسكريين، لكن ذلك لم يفت في عضد الفصائل الفلسطينية التي أصدرت تهديدات مضادة، مفادها بأنها تتجهز للمواجهة القادمة، وهو ما رفع منسوب التصريحات الإعلامية بالتزامن مع سخونة الوضع الميداني، وسط دعوات إسرائيلية للجيش بضرورة الرد الحازم على غزة وفصائلها.
في الوقت ذاته، لا تبدو "إسرائيل" في عجلة من أمرها للذهاب إلى حرب رابعة مع غزة، ليس بالضرورة لحسابات عسكرية بحتة، وإن كانت تحتل مكانة متقدمة في حساباتها، لكن القراءة الواقعية للتروي الإسرائيلي باتجاه غزة، يمكن إدراجه ضمن الاعتبارات التالية:
1- تعتقد "إسرائيل" أن المواجهة في غزة قد لا تحتل أولوية متقدمة في سياستها الخارجية، في ظل زحمة الملفات على طاولة دوائر صنع القرار فيها، فغزة رغم خطورة عتادها العسكري، وتنامي قدراتها التسلحية على مدار الساعة، لكن بالإمكان استدراكها -ولو بعد حين- لأنها لا تشكل تهديدا إستراتيجيا على "إسرائيل"، أو كما يسمونها في أدبياتها بـ"المخاطر الوجودية".
2- الإقليم المحيط بـ"إسرائيل" يمور بتطورات متلاحقة، لاسيما في سوريا ولبنان، وارتفاع التحذيرات الإسرائيلية بشأن الوجود الإيراني في هضبة الجولان، قد تعتبره "إسرائيل" فعليا خطرا حقيقيا داهما، لا يحتمل التأجيل والإرجاء، ولذلك تستنفر المؤسسة العسكرية الإسرائيلية إمكانياتها لمعالجة هذا التهديد، سواء من خلال القصف المتواصل داخل الأراضي السورية واللبنانية، أو الجهد الدبلوماسي المكوكي الذي تبذله المؤسسة السياسية ووزارة الخارجية لتحذير العالم من ذلك.
3- الحراك الإقليمي والدولي الخاص بما يسمى "صفقة القرن" قد يعكر من صفوه اندلاع مواجهة عسكرية إسرائيلية فلسطينية في غزة، وربما يعمل على تأجيلها حتى إشعار آخر، مما قد يدفع واشنطن للإيعاز لتل أبيب بتجميد أي مخططات عسكرية عدوانية باتجاه غزة، ولو مؤقتاً، فضلا عن رغبة شركاء الصفقة الموعودة، لاسيما مصر والسعودية، قد لا تسارعان لتأييد هذا العدوان، وإن كانتا لا تملكان حق النقض تجاه القرار الإسرائيلي.
4- تشرع "إسرائيل" منذ أشهر في مشروعها العسكري الإستراتيجي المسمى "الجدار تحت الأرضي"، الخاص بتدمير الأنفاق الهجومية للمقاومة الفلسطينية، وعلى رأسها حماس، التي استثمرت فيها ملايين الدولارات وآلاف الساعات من العمل المتواصل، وقضى فيها عشرات الشهداء، على اعتبار أن هذه الأنفاق هي السلاح الإستراتيجي الكفيل بكسر التفوق النوعي الإسرائيلي في ميدان القتال، وقد نجحت التقنيات التي تستخدمها "إسرائيل" في الكشف عن عدد من الأنفاق خلال الأسابيع الماضية، وتأمل بالكشف عن أخرى خلال الفترة القادمة، على أمل أن تنتهي من ذلك حتى أواخر العام القادم 2018.
خيارات حماس تبدو حماس رأس الحربة في المواجهة العسكرية القادمة مع "إسرائيل"، ومع ذلك فلم تبد الحركة حتى الآن دافعية للمسارعة بخوض تلك المواجهة، في ظل تأكيدها المتواصل أن الحروب الثلاثة الأخيرة قد فرضت عليها فرضا من "إسرائيل".
ولئن اعتمدت حماس خلال الفترة الماضية في توجهها بعدم المسارعة نحو المواجهة، استنادا لتحضيراتها العسكرية، وقراءتها للواقع المعيشي المتدهور في غزة، ورغبتها بعدم تعكير أجواء المصالحة المتعثرة مع فتح، لكن تطورات الأسابيع الأخيرة المترافقة مع إحياء حماس لذكرى انطلاقتها الثلاثين قد تحدث تغييرا في توجهات الحركة للفترة القادمة أمام "إسرائيل"، وهي على النحو التالي:
1- القرار الأميركي الخاص بالقدس شكل مفاجأة من العيار الثقيل للفلسطينيين، ومنهم حماس، التي استنفرت جهودها الشعبية ومسيراتها الجماهيرية الحاشدة خلال الأيام التي تلت إعلان ترمب، لكن تقدير الحركة بأن أي حراك جماهيري قد لا يستمر طويلا، بفعل جملة أسباب قد يجعلها تخشى من طي صفحة هذه الفعاليات بين يوم وآخر، مما قد يدفعها لإبقاء جذوة المواجهة وعنوانها القدس.
2- تخشى حماس فعليا -وهذا ليس سرا- من نجاح الخطط الإسرائيلية العملياتية الخاصة بكشف المزيد من الأنفاق، مما قد يعني هدر إمكانيات طائلة أنفقتها في مشروعها الإستراتيجي هذا، وإبطال مفعول سلاح كان كفيلا بإحداث توازن مع الجيش الإسرائيلي، ويبقى السؤال مطروحا برسم الإجابة: إلى أي حد قد تضبط حماس أعصابها وتبقي رصاصها في مخازنه فيما ترى قدراتها العسكرية في طريقها للكشف والإحباط، لأن ذلك قد يعني أن تخوض حماس مواجهتها العسكرية القادمة، كأسد بدون أنياب أو نمر من ورق، واقتصار أسلحتها على المعدات التقليدية، بما فيها القذائف الصاروخية، التي وجدت "إسرائيل" حلولا للتخفيف من حدتها من خلال القبة الحديدية.
3- بات واضحا أن المصالحة الفلسطينية تمر بتعقيدات وتلكؤات ليست خافية على أحد، وحماس التي قدمت تنازلات غير مسبوقة -كما تعلن ذلك- يسودها شعور بأنها أصيبت بالخديعة من قبل فتح ورئيسها محمود عباس أبو مازن، بدليل أنه لم يطرأ أي تحسن على الأوضاع المعيشية في غزة، مما قد يدفع بالأمور إلى اندلاع موجة انفجار شعبي داخلية، وهو ما تخشى الحركة أن يتم توجيه هذا الانفجار باتجاهها، مما قد يدفعها، لتوجيه هذا الانفجار إلى "إسرائيل"، بغض النظر عن مدى صوابية هذا الهروب إلى الأمام، أو خطئه!.
أخيرا.. تزداد الأوضاع الأمنية سخونة في غزة، ورغم عدم رغبة الجانبين، حماس و"إسرائيل"، في الذهاب إلى اندلاع المواجهة الشاملة الواسعة، كل لأسبابه الخاصة، لكن الرمال المتحركة على حدودهما قد تدفعهما دفعا لذلك، وإن لم تقع هذه الجولة الساخنة، فإن الأمور قد تبدو مهيأة أكثر من أي وقت مضى لجولة جديدة من التصعيد، قد تكون أقل من حرب، لكنها ستكسر من حدة الهدوء المشوب بالحذر السائد منذ فترة.
المصدر: الجزيرة نت