مقدمة
على مدار السنوات الأخيرة، تصاعدت بحدة أزمة الطائفة الأرثوذكسية في فلسطين، ولعل الأصح أن نسمّيها أزمة العلاقة بين الجماعة الوطنية الفلسطينية في الطائفة، والقيادة الروحية اليونانية. جاء احتدام الأزمة، كما هو معروف، على خلفية فضائح تسريب أملاك الوقف الأرثوذكسي، من خلال البطريرك ومساعديه إلى شركات ورجال أعمال صهاينة، بل إلى مؤسسات صهيونية رسمية وجمعيات ومنظمات يمينية متطرفة.
ومما لاشك فيه أن سيطرة القيادة الروحية اليونانية الممثلة تنظيمياً بما يعرف بـ"أخوية القبر المقدس"[1] على كل مناحي الحياة في الطائفة، وخصوصاً في السياقين السياسي والاقتصادي، يجعل دورها يتجاوز مجرد كونها قيادة روحية، ويُضفي على الأزمة طابعاً أكثر عمقاً وجذرية من مجرد تسريب الأملاك على خطورته، وصولاً إلى واقع هذه الكنيسة، وما يعنيه وجود طبقة أجنبية متحكمة في مقادير الكنيسة وقدراتها، مقابل عزل الوطنيين من أبناء الرعية عن أي دور أو مركز قرار.
ما سبق يحيلنا إلى العمق التاريخي للأزمة، التي لا يمكن القول إنها وليدة اليوم، أو السنوات الأخيرة، فتاريخ نضال الطائفة الأرثوذكسية العربية في فلسطين، في سبيل تصحيح مسار كنيستهم واستردادها من أيدي الكهنة اليونانيين، تاريخ طويل وعريق؛ ويعود بالتأكيد إلى زمن تثبيت نفوذ رهبان وعائلات الفنار اليوناني الإسطنبولي، وتثبيت نفوذهم في مفاصل الحكم العثماني، ما أدى إلى عزل أو إقالة آخر بطريرك عربي في القسطنطينية[2]، ودخول الكنيسة مسار "اليوننة" منذ ذلك الحين.
حازت القضية الأرثوذكسية على تغطية كبيرة، في سياق الكتابة التاريخية عن فلسطين، لأسباب تتعلق بحجم التداخل الدولي العثماني -اليوناني- الروسي، والصراع المحتدم للسيطرة على الكنيسة، أو بسبب نشأة تنظيمات فلسطينية أرثوذكسية وطنية وجمعيات مناهضة لسيطرة الكنيسة اليونانية، وارتباطها بشخصيات فلسطينية كبيرة من وزن خليل السكاكيني على سبيل المثال. وقد تعرّض الأستاذ السكاكيني للقضية الأرثوذكسية في مساحة واسعة من يومياته، كما كتب فصلاً كاملاً بعنوان "النهضة الأرثوذكسية"[3] يتحدث فيه عن مشروع تصحيح الكنيسة الذي كان مبادراً إليه وانتهى بانشقاقه.
أما في الأدب، فلم يعثر الكاتب على أي عمل أدبي يتناول القضية الأرثوذكسية، في سياق تاريخي، سوى رواية "الزوبعة"[4] للروائي الأردني زياد قاسم[5]. تتناول الرواية القضية الأرثوذكسية في سياق الخلفية التاريخية التي أحاطت بتطورات النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وتتطرق بوضوح إلى طبيعة العلاقات بين العنصرين العربي واليوناني في إطار الكنيسة بروحٍ نقديةٍ كشفت عسف وجور اليونانيين المسيطرين.
سيتبع هذا النص خطاً ثلاثياً، إذ يراجع في أولى محطاته كيفية تناول زياد قاسم للقضية الأرثوذكسية في روايته في منحاها الدرامي، عبر شخوص الرواية المعنية بهذا، ومواقفها، وسيروراتها، ثم سيربط هذه المراجعة بالسياق التاريخي لمعركة النضال في سبيل تعريب الكنيسة واستردادها من السيطرة اليونانية، عبر مسار مختصر لتاريخ السيطرة وجذورها وخلفياتها السياسية، وصولاً إلى التطرق لأحد أهم شخصيات النهضة الأرثوذكسية العربية عبر مراجعة مواقف وأفكار خليل السكاكيني.
زياد قاسم والزوبعة
تعدّ رواية الزوبعة بطابعها الملحمي وحجمها الضخم أبرز روايات زياد قاسم على الإطلاق ولعلها مشروعه الأساسي، حيث تتبع عبرها تاريخ المنطقة في بلاد الشام والعراق ومصر والجزيرة العربية منذ ستينيات القرن التاسع عشر، بأسلوب درامي، عرض فيه التاريخ السياسي والاجتماعي والتطور الاقتصادي الحضري، عبر شخصياته التي يمكن إرجاع الكثير منها إلى أصلها الواقعي. كما برزت شخصيات حقيقية تاريخية كلاعبين أساسيين في الرواية التي تنتهي فصول أجزائها الستة مع نكبة فلسطين.
من الممكن تلخيص خط الرواية الدرامي بكلمات الكاتب نزيه أبو نضال: "إن الأحداث الروائية في الزوبعة ورغم امتدادها الواسع جغرافياً، إلا أن خطها المحوري يسير على خط الحديد الحجازي. فبموازاة هذا الخط، يتحرك مسار التاريخ المعاصر للمنطقة العربية بخطوطه الكبرى، وبوقائعها الجزئية والتفصيلية، حيث أقام زياد قاسم عالمه الروائي، ولعبت دور البطولة فيه مئات الشخصيات والأحداث التي تتداخل فيها الوقائع الحقيقية بالأحداث والشخصيات الواقعية، وإن لم تكن حقيقية"[6].
حمل عنوان الرواية "الزوبعة"، كما يشير عدد من النقاد، معنىً مركباً، فهي من جهة الزوبعة الحقيقية التي تثير بدوامتها الكثير من الغبار، في انعكاس للبيئة الصحراوية التي تدور فيها أحداث أجزاء كثيرة من الرواية. ومن جهة أخرى، تنطوي الرواية على تمثيل رمزي للثورة العربية الكبرى، والتي رغم ما خلفته من أضرار أدت في سياقها التاريخي إلى تطبيق معاهدة سايكس-بيكو وتجزئة المشرق العربي والاستعمار الغربي، إلا أن خيرها ربما وبتدقيق مكثف، تمثل في خروج هذا الشرق من ربقة الحكم التركي الفاسد والمظلم، وتحريك المستنقع السياسي والاقتصادي الآسن الذي خلفه هذا الحكم في عقوده الأخيرة.
كما ينعكس البعد الأيديولوجي للروائي في اتباعه، دون إعلان، فكرَ الحزب القومي الاجتماعي السوري ومؤسسه أنطون سعادة الذي كان له ولأتباعه نصيب وافر في الرواية، وينعكس أيضاً في الاتجاه الروائي العام والنظرة إلى بلاد الشام وسوريا الطبيعية كوحدة واحدة غير قابلة للتجزئة، مع ربط هذا بتوجه قومي أكثر شمولاً تجاه وحدة العرب وضرورة حيازتهم استقلالهم السياسي. يقول قاسم في شهادته عن نفسه كروائي: "في كتاباتي تمثّلت الماضي الذي صنعني، والمستقبل الذي أحلم بصناعته في صور مكانية زمانية عبرت عن البيئة السورية وظروفها الاجتماعية في تراكمات حضارية تضمنت الجغرافيا دون أن تكونها واشتملت على التاريخ دون أن تتقمصه"[7].
لم يتوقف قاسم عند الأبعاد السياسية لتاريخ الاحتلالات، وخصوصاً العهد التركي والثورة العربية الكبرى، ثم اغتصاب فلسطين ومآلات الأبطال ارتباطاً بهذه "الزوبعة" الجيوسياسية، بل ذهب إلى عمق النسيج الاجتماعي –الديني، وهو وإن بدأ ملحمته بالمذابح الطائفية[8] التي عايشتها بلاد الشام في ستينيات القرن التاسع عشر، فقد أبرز بشكل كبير- وبعيداً عن هذا التعصب الطارئ- التسامح القوي بين الأعراب المسلمين والمسيحيين في القرن التاسع عشر، من الجزيرة العربية وحتى امتداد ساحل البحر الأحمر، وصولاً إلى الكويت مروراً بالعراق، ونزولاً الى سواحل الخليج .. منتصراً دائماً لفكرة الجماعة العربية ووحدتها الجغرافية واللغوية والسياسية.
نجد في الرواية الأتراك والصرب واليونانيين والعرب من سوريا والعراق وفلسطين ولبنان وشرقي الأردن والجزيرة العربية، كما نجد الشركسي واليهودي الأفاق، والحضري والقروي والبدوي، والمعلم والراعي، والعسكري المستعمر والثائر، والخائن والشهيد، وغيرها من العناصر التي شكلت تلك اللوحة. إضافة إلى ذلك، أرى أن تلك الرواية هي من أولى الأعمال التي عالجت تدفق الهجرات الداخلية الجماعية والفردية في أقطار بلاد الشام وبينها، وأثرها الجذري في التأسيس لعلاقات ومصائر جديدة للمجتمعات، بل في تشكيل مجتمعات جديدة وإحداث تغييرات جوهرية في النسيج الاجتماعي والتشكل السياسي والاقتصادي.
تعدّ هذه الرواية على