تُصنع في الإعلام صورة تواطؤ عربي-صهيوني كامل، ويلَوّح بحروبٍ إسرائيلية لتصفية قوى المقاومة، حتى يظن بعضنا أن الحرب الإسرائيلية على قوى المقاومة ستقوم غداً بمشاركة أسلحة الجو العربية! وأمام الصوت العالي والإعلانات الإعلامية المتتالية تعمل الصورة على الإمعان في إدانة الخصوم، مستثمرةً في رغبةٍ عربية نفسية لجلد الذات وتوقع الأسوأ دوماً منها، ويمسي الواجب هنا البحث عن الصورة الموضوعية للأخطار لبناء تفكير سليم في إمكانية مواجهتها، ولا بد من التوقف عند الحقائق الآتية:
- الحرص الصهيوني على رسم صورة تحالف إسرائيلي-سعودي باعتباره بات أمراً واقعاً: ترى لو كان هذا الحلف قائماً بالفعل، ولو كانت الدولة الصهيونية حريصة على الاستفادة منه، هل ستكون معنية بإعلانات وتصريحات متتالية عنه تحرقه؟ للأردن ومصر والسلطة الفلسطينية علاقات أوثق وأقرب فلماذا لا تحظى بنصف هذه الهالة في الإعلام؟ وما سرُّ الإقبال الصهيوني على الإعلام في حالة التقارب السعودي المستجد إذن؟
ما تتطلع إليه الدولة الصهيونية من العلاقات مع السعودية هو حصار الفلسطينيين بشكلٍ أساس، ونزع الغطاء العربي والإسلامي عن صراعهم، ولعل التعجل لرسم هذه الصورة مصدره قراءة صهيونية بأن الهرولة الحالية تجاهها مؤقتة، ومحكومة برغبة طرف متطلعٍ للسلطة لن يكون مدفوعاً بنفس الطريقة بعد الوصول إليها، أو بتخوف من أن تترك المغامرات الحالية أثراً دائماً على شكل الدولة السعودية وإمكاناتها، وهي تتطلع إلى قطف مكاسبها من التقارب معها بسرعة ودون انتظار نضوج تعاونٍ حقيقي قد لا يأتي.
- التقارب السعودي مع الدولة الصهيونية يهدد ثلاثة لاعبين سياسيين يستمدون أدوارهم الإقليمية وغطاءهم الأمريكي من دور الوساطة مع "إسرائيل" هم مصر والأردن والسلطة الفلسطينية، وثلاثتهم لن يكونوا مرحبين بهذا التقارب، وسيكونون حريصين على إبداء تمايزهم عن خط التقارب السعودي وعدم رضاهم عنه لأنه يأتي بالضرورة على حسابهم.
- إذا كانت بعض دول الخليج تشاطر السعودية خوفها من إيران كدافعٍ ربما يذهب بها للتقارب مع الدولة الصهيونية، فهي لا تشاطرها معضلة نقل السلطة التي هي معضلة سعودية داخلية بحتة، ولذلك حاولت –وستحاول- الكويت وقطر وعمان التأكيد على أنها لا تسير في هذا النهج ولا ترضى عنه.
- اختيار حزب الله للبدء بتجريمه جاء انطلاقاً من إمكانية تمرير ذلك شعبياً بعد انخراطه في الحرب السورية، وهذا يؤشر إلى أن النظام الرسمي العربي رغم الردة على الثورات ما زال يخشى المشروعية الشعبية، بل ربما بات يخشاها أكثر بعدما رآه، وهذا ما يفسر عدم بدئه بالمقاومة الفلسطينية لتجريمها، رغم تطلعه إلى ذلك وسعيه لحصارها وتعميق مأزقها، بل ربما هو أكثر تطلعاً للقضاء عليها باعتباره خدمة أكبر تقدم للأمريكان. هذا يعني أن نزع المشروعية الشعبية عن خط التطبيع ما يزال سلاحاً فعالاً ومؤثراً يمكن التعويل عليه.
- هناك نزعتان نفسيتان مدمرتان يجري التعويل عليهما: الأولى نزعة التشفي والرغبة في سقوط المخالفين سياسياً رغم أن سقوطهم في شرك التطبيع التام إن حصل ستكون له آثار كارثية على القدس وفلسطين وكل العرب، ونزعة الانتقام بغض النظر عن أثره علينا، على طريقة "اللهم اضرب الظالمين بالظالمين" وكأن عزل حزب الله وإسقاطه لن يتبعه عزل المقاومة الفلسطينية وإسقاطها حين تبقى معزولة ومنفردة.
- على المستوى الدولي لا يمكن أن نغفل أن هذه النزعة تأتي في ظل تراجعٍ أمريكي إجمالي من موقع القطب الأوحد يبدو أنه سيستمر، وتحت ظل إدارةٍ مأزومة تتضارب إرادتها مع إرادة المؤسسة البيروقراطية الأمريكية ما يجعلها مهددةً بالرحيل. أي أن الرعاية الدولية لمثل هذا التقارب محدودة ومأزومة في الوقت عينه رغم اندفاع أصحابها وهرولتهم.
لعل المخرج الأساس من هذا كله له ركيزتان: أولاً: رفض الانسياق نحو النزعات النفسية المدمّرة التي يجري جرّنا إليها وتحكيم العقل مسيطراً وحاكماً للسلوك الغريزي الذي تعول عليه هذه الجوقة، وثانياً: التأكيد الشعبي الواضح والجلي على أن التطبيع مع الصهاينة لم يكن ولن يكون مقبولاً من أي عربي ومسلم في يومٍ من الأيام، وأن أي رئيسٍ أو زعيم أو ملكٍ أو أمير يغامر بخوضه يضع نفسه أمام تحدي تجريده من الشرعية الشعبية، والاصطدام بإرادة الناس، وأن كل التسريبات والتصريحات المتكررة لترويض الرأي العام وتعويده لن تمرّ ولن تحقق غايتها، وأمام حكومة صهيونية كانت تهدد المسجد الأقصى تهديداً وجودياً قبل أشهر فإن التقارب مع الصهاينة هو مشاركة مباشرة في تهويد أقدس مقدسات المسلمين وتسليمه لعدوٍ محتل، ومحاولة محو لآيةٍ في كتاب الله لا يمكن لها أن تمرّ.