قبل مائة عام من تاريخ هذا اليوم لم أكن مولوداً، ولم يكن جدي الذي أنجب والدي قد ولد أصلاً، لكنَّ الأنانية المقيتة، والمصلحة العمياء، والتزوير الكاذب، والانتقام الحقير كان قد ولد وكبر، وأصبح قوياً يصول ويجول باسم الإنسانية التي لا يُماري فيها عاقل، ولا يُكذّب نقاءها إلا جاهل.
قبل مائة عام من تاريخ هذا اليوم أرسل "آرثر بلفور" -وزير الخارجية البريطانية- إلى اللورد روتشيلد -أحد زعماء الحركة الصهيونية- رسالة مفادها أنَّ "حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلى تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، وستبذل غاية جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية".
إن المتتبع للسياق التاريخي لهذا الوعد المشؤوم يجد أنَّ بريطانيا القوية آنذاك، كان لها الكثير من المصالح الداخلية والاستعمارية– مستعمرة الهند وبلاد شرق آسيا وغيرها -التي دفعتها لقطع هذا الوعد عبر وزير خارجيتها آرثر بلفور، والتي تتلخص أهمها في المحاور الثلاثة التالية:
أولاً: المحور الديني المتمثل في الاتجاه البروتستانتي والذي كان يُؤمن بالعهد القديم الذي ينص على ضرورة عودة اليهود إلى فلسطين، وإقامة هيكلهم المزعوم.
ثانياً: المحور السياسي الذي كان يبحث عن مندوب حقيقي في الشرق الأوسط؛ حتى يحافظ على مصالحه الاستعمارية والطرق المؤدية إليها.
ثالثاً: المحور "اللاسامي" المتمثل في الجهة التي كانت تدعو للتخلص من اليهود بأي شكل من الأشكال؛ لما يُشكلونه من خطر حقيقي على العرق البريطاني وأصالته الكبيرة.
ولا شك أنَّ الحركة الصهيونية التي أسسها تيودور هرتزل عام 1897م أدركت جيداً طبيعة هذه المحاور فعملت على تعزيزها، وتوفير البيئة الضاغطة لتحقيق أطماعها في فلسطين، فطافت على باباوات الكنيسة لترسيخ الفكرة الدينية، وقدمت نفسها كحارس قوي لمصالح الدول الأوروبية عموماً ومصالح بريطانيا خصوصاً، وعززت من هجرة اليهود إلى بريطانيا؛ لاستفزاز المحور "اللاسامي" من أجل الضغط على الحكومة لحل أزمة اليهود، وتوفير وطن قومي لهم، ولم يتوقف إدراك الصهيونية عند هذا الحد، بل فهمت موازين القوى الجديدة التي كانت كفتها تتجه نحو الولايات المتحدة الأمريكية بعد الحرب العالمية الثانية؛ لذلك عملت بكل طاقتها لترتيب العلاقات مع أمريكا من أجل مشروعها البغيض، وفعلاً نجحت الحركة الصهيونية في استمالة القوة الكبيرة لمصالحها الخاصة، من خلال المال ومجالاته المتعددة، وكذلك من خلال اللوبي الصهيوني الذي يملك القدرة المميزة في حسم الانتخابات الأمريكية واتجاهاتها المختلفة.
هذه الوسائل وغيرها دفعت أمريكا لأن يكون لها دوراً مميزاً في وجود دولة "إسرائيل" على أرض فلسطين، وهذا ما عبّر عنه أول رئيس وزراء لدولة "إسرائيل" عندما أشاد بأمريكا ودورها المميز في تذليل العقبات، وتوفير الإمكانيات من أجل قيام الدولة الإسرائيلية، فقال: "إن الولايات المتحدة الأمريكية لعبت دوراً حاسماً في الحرب العالمية الأولى، وكان لليهودية الأمريكية دورها في صدور وعد بلفور".
إنَّ هذا الوعد التاريخي المشؤوم الذي قطعته بريطانيا على نفسها ما زال محط افتخار من قبل حكومة بريطانيا الحالية والتي عبّرت عنه رئيسة الوزراء البريطانية "تيريزا ماي" خلال جلسة لمجلس العموم البريطاني أن بلدها ستحتفل بـ"فخر" بالذكرى المئوية لصدور وعد بلفور، وقالت: "إننا نشعر بالفخر من الدور الذي لعبناه في إقامة دولة "إسرائيل"، ونحن بالتأكيد سنحتفل بهذه الذكرى المئوية بفخر".
كما أنَّ هذا الافتخار لم يقتصر على خطبة هنا وهناك بل تُرجم إلى أفعال متواصلة بين الكيان الصهيوني وبريطانيا، التي لم تقطع دعمها له طوال السنوات الماضية، وذلك من خلال التجارة العسكرية والمصالح المالية، وهذا ما ينطبق تماماً على الولايات المتحدة الأمريكية ودورها الفعال في دعم "إسرائيل" بالمعدات القتالية والمبالغ المالية العلنية، واستخدام حق النقد الفيتو من أجل الدفاع عن هذه الدولة المزعومة، فقد كشف تقرير الكونجرس الأمريكي عام 2014م عن حجم المساعدات المالية والعسكرية ، والتي كان أبرزها ما تم الاتفاق عليه في عام 2007م حيث أنشأت إدارة بوش حزمة مساعدات عسكرية لإسرائيل تمتد لـ10 سنوات، بمقدار 30 مليار دولار للسنوات المالية 2009 وحتى عام 2018.
وقد وفت ميزانيات إدارة أوباما بهذا الالتزام، فخصصت 3.1 مليار دولار للعام المالي 2014، ونفس المبلغ المطلوب للعام المالي 2015.
هذا الدعم المتواصل لـ"إسرائيل" من قبل الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا يدل دلالة واضحة على نجاح الاحتلال الصهيوني على أن يبقى لاعباً مهماً في منطقة الشرق الأوسط، وحارساً أمنياً لمصالح الدول الكبرى، وفي المقابل يعكس صورة غير مرضية عن أداء ممثلي الحق الفلسطيني في الدفاع عن حقوق الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة، وفي كشف الوجه الحقيقي لهذا المحتل الغاصب، وفي تقديم الحلول التي تفي معرفة المفاتيح الرئيسة التي تجعل من دولة الاحتلال
والتأكيد نحن لا نُنكر جهود الدبلوماسية الفلسطينية في الدفاع عن حقوق الشعب الفلسطيني وقضيته الكبيرة، ولا نُنكر جهد الجاليات الفلسطينية ومؤسساتها المختلفة في بريطانيا وغيرها من أجل دعم القضية الفلسطينية ومكانتها العادلة، والتي كان من نتائجها وقوف العديد من الشخصيات البريطانية وبعض المؤسسات الفاعلة مع فلسطين وحقها المشروع في الحرية والاستقلال، غير أننا أمام عدو يملك من الإمكانات ما يجعل يده تصل إلى صانعي القرار في كل مكان؛ لذلك فإننا بحاجة ماسة إلى توحيد الجهود المبذولة في هذا الاتجاه، والعمل الجاد من أجل تحقيق الهدف المنشود بأقصر الطرق الممكنة.
كما أننا بحاجة إلى تطوير الوسائل والأساليب التي من شأنها أن تجعل الاحتلال الصهيوني عبئاً على المجتمع الدولي، وهذا لن يتأتى إلا إذا أحدثنا اختراقاً وازناً في المنظومة الدولية الكبرى، وأوجدنا مساحة جيدة من المصالح المؤثرة، التي تجعل الصهاينة ودولتهم المزعومة في مهب الريح.
وبالرغم من ألم السنوات، ومرارة العذابات، وقلة الإمكانيات إلا أننا مؤمنون بأنَّ فلسطين سترجع لأصحابها، وأنَّ العدو الصهيوني سيندحر عن أراضيها المباركة، وأنَّ التاريخ لن يرحم أولئك الذين وقفوا مع الحركة الصهيونية من أجل مصالحهم الأنانية، وأطماعهم الاستعمارية.
عربي 21