"ذاب الثلج وبان المرج". وتم الإعلان عن اتفاق القاهرة الجديد الذي يمكن تلخيصه بجملة واحدة "تمكين الحكومة من حكم قطاع غزة" حتى تاريخ الأول من كانون الأول المقبل، ودعوة الفصائل للاجتماع في القاهرة بتاريخ 21 تشرين الثاني المقبل، للبحث وليس لتطبيق بقية القضايا المدرجة في "اتفاق القاهرة".
وأقول "الجديد" لأنه - كما سَأُبيّن - اتفاق جديد ما لم يثبت العكس، وجرى الاتفاق على القضايا الأخرى بصورة تحقق الشراكة الوطنية، فاتفاق القاهرة وملحقاته دائمًا كان ينظر إلى القضايا كرزمة واحدة، ويتضمن جدولًا زمنيًا متدرجًا لتطبيقها، إذ كان يتضمن موعدًا لتشكيل الحكومة، وآخر لعقد المجلس التشريعي، وثالثًا لتفعيل الإطار القيادي المؤقت للمنظمة، ورابعًا لإجراء الانتخابات. أما هذه المرة وضعت كلمة "لبحث" وهي تختلف عن كلمة "لتطبيق" التي كانت تستخدم سابقًا، وهذا يترجم انعكاس تغيّر الظروف والمعطيات منذ 4/5/2011 عنها في 12/10/2017.
وأبرز ما ميّز تلك الفترة تغيّر الحال كليًا من صعود جماعة الإخوان المسلمين في المنطقة برمتها، لدرجة تولي منصب الرئيس في مصر، التي كانت "حماس" تعتبر نفسها امتدادًا لها في فلسطين، إلى أن وصلت إلى الاكتفاء بالإشارة إلى البعد الفكري معها فقط. فما كان ممكنًا في مرحلة الصعود بات مستحيلًا في مرحلة الهبوط، وهذا ما أدركته "حماس" انطلاقًا من أنّ السياسة هي فن أفضل الممكنات.
إنّ تمكين الحكومة ليس ممكنًا من دون شراكة وطنية، خصوصًا مع "حماس"، وفي أقل من شهرين كما جاء في الاتفاق، لسبب بسيط جدًا هو أن أكثر من عشر سنوات على الانقسام خلّفت جبالًا من التعقيدات والقوانين والأوضاع وأصحاب المصالح والحقوق المكتسبة، وبنية كاملة سياسية أمنية اقتصادية اجتماعية لا يمكن تغييرها خلال مدة قصيرة، لا سيما في ظل أنّ السيطرة خلالها كانت لحماس فكريًا وسياسيًا وإداريًا وأمنيًا وقانونيًا، بينما معظم موظفي السلطة السابقين يجلسون في منازلهم تنفيذًا لقرار "غبي" كان يتصور متخذوه أنهم بذلك سيسرعون في القضاء على سلطة "حماس" الناشئة، فقدموا لها بدلًا من ذلك دعمًا هائلًا مكّنها في عام واحد من إنجاز ما كانت تحتاج إلى إنجازه سنوات عديدة لو لم يتخذ القرار.
وتكتمل الصورة إذا تذكرنا أنّ مهمة قادة الأجهزة ستكون مستحيلة من دون شراكة حين يلتقون "لبحث سبل وآليات إعادة بناء الأجهزة الأمنية مع ذوي الاختصاص". فالجهاز الوظيفي والإداري والأمني بحاجة إلى إعادة بناء وهيكلة ودمج وتغيير وتجديد وإصلاح على أسس مهنية ووطنية، بعيدًا عن الحزبية ومراكز القوى السياسية والأمنية والاقتصادية، وعلى أساس عقيدة أمنية جديدة تُستمد من كون الفلسطينيين يعيشون في مرحلة تحرر وطني، تتطلب أولًا إنهاء الاحتلال عبر تغيير موازين القوى، وليست مرحلة سلام أو بناء مؤسسات دولة وتطبيق الالتزامات السياسية والأمنية والاقتصادية المترتبة على اتفاق أوسلو بعد أن تجاوزته الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، التي تسعى بشكل حثيث ومتسارع لإقامة "إسرائيل الكبرى" من دون ضم السكان الفلسطينيين أصحاب البلاد، بل تركهم يعيشون في معازل ضمن سقف الحكم الذاتي، مع استمرار السيطرة الإسرائيلية من النهر إلى البحر، يرتبطون أو لا يرتبطون مع بعضهم في الضفة والقطاع، أو ترتبط معازل الضفة مع الأردن والقطاع مع مصر.
لو كان النظر إلى المرحلة باعتبارها مرحلة تحرر وطني كما هو مفترض، وأن السلطة التي لدينا بلا سلطة، لشُكِّلَت لجنة أمنية عليا بالتوافق كما جاء في اتفاق القاهرة لتقوم بإعادة هيكلة الأجهزة الأمنية في الضفة والقطاع ... إلخ، أما تمكين قادة الأجهزة من استلام مهامهم كما جاء في الاتفاق فأمر مختلف جدًا، ويدل على أن ما يجري هو استعادة السلطة لسيطرتها على قاعدة "غالب ومغلوب" وليس "خروج الجميع منتصرين" كما يظهر بالسعي لعزل "حماس". في حين أنّ الفلسطينيين بحاجة إلى إعادة النظر في شكل السلطة ووظائفها والتزاماتها بالتوافق الوطني، لتنسجم مع حقيقة أن "أوسلو" وصل إلى الكارثة التي نعيشها، وأن المقاومة المسلحة الأحادية وصلت إلى الهدنة المفتوحة، وأنها تقوم بحماية السلطة، في حين جرى تبرير الاستيلاء على السلطة من أجل حماية المقاومة.
هناك من يقول إن السلطة لا تشارك الفصائل، وهذا صحيح، شرط ألا تكون تحت هيمنة فصيل وتحكم باسمه، مع أنه لم يعد صاحب القرار منذ فترة طويلة، بل أصبح الحكم في أيدي مراكز القوى من دون فصل للسلطات، ولا وجود مؤسسات وسلطات للمراقبة والمحاسبة والمساءلة، ومن دون الاحتكام إلى الشعب في انتخابات حرة ونزيهة ودورية.
كان من الخطأ القاتل أن تدخل "حماس" السلطة المكبلة بقيود مجحفة وهي غير قادرة على تغييرها، وغير مستعدة لقبولها، الأمر الذي أدخلها في الفخ الذي تحاول حاليًا الخروج منه، وهي إذا كانت حقًا حركة مقاومة تستهدف تحرير فلسطين، كان عليها أن تطرح أو تحاول تغيير طبيعة السلطة وشكلها والتزاماتها أولًا، لا أن تنخرط فيها وتتعايش معها، ما أوجد تناقضًا بين السلطة والمقاومة جرى حله غالبًا لصالح السلطة. كما كان بمقدور "حماس" أن تبقى خارج الحكم، وتمارس تأثيرها على السلطة من خلال مشاركتها في المجلس التشريعي أو من دون ذلك.
والآن، تبرر "حماس" خروجها من الحكم من أجل المشروع الوطني والمقاومة، وحتى نصدّق ذلك لا بد من وضع هذا العنوان على رأس جدول أعمال الحوار الوطني الشامل، والإصرار من كل الحريصين والغيورين على خروجه برؤية شاملة وإستراتيجية سياسية ونضالية بديلة عن الإستراتيجيات المعتمدة.
ويعود هذا الخطأ إلى الرهان على الاعتراف بحماس من قبل العالم إذا تعايشت مع السلطة، وأبدت استعدادًا لاحترام الالتزامات، ولعقد هدنة طويلة الأمد، فوجدت أنها مطالبة بأكثر من ذلك بكثير حتى يتم الاعتراف بها (الاعتراف بشروط اللجنة الرباعية الدولية، وخصوصًا نزع سلاح المقاومة)، وهي نفس الشروط المطروحة حاليًا وإن بشكل مشدد أكثر من السابق، كما لاحظنا ذلك في الشروط الأميركية الإسرائيلية المكررة حاليًا على أي حكومة فلسطينية قادمة. أما اعتراف توني بلير بالخطأ فلن يُصَحَّحَ اليوم، فهو مثل اعتراف جورج بوش بخطأ اتهام صدام حسين بامتلاك أسلحة الدمار الشامل، لأن هذين الاعترافين جاءا بعد وقوع الجريمة ومن أشخاص باتوا خارج الحكم.
"حماس" أمام خيارين أحلاهما مرّ: إما المشاركة في الحكومة وبلع هذه الشروط، أو عدم المشاركة واقتراح أسماء من المستقلين المقربين منها، وهذا غير مضمون كذلك الآن كما دلت تجربة تشكيل حكومة الوفاق الحالية التي لم تكن وفاقية جدًا، فكيف الآن؟!
تدل وقائع المصالحة الجارية حاليًا أن الحكومة الحالية والقادمة إذا شكلت حكومة جديدة ستكون حكومة الرئيس وملتزمة ببرنامجه والتزامات منظمة التحرير، وهذا يعني عودة الوضع السابق للانقسام، مع أننا بحاجة الآن أكثر من السابق لتجاوزه كليًا. فالرئيس يمكن أن يقبل أو يرفض من ترشحهم "حماس"، التي أخذت تهيئ الأجواء لعدم مشاركتها في الحكومة حتى لا تتحمل أي مسؤولية، ولقطع الطريق على مقاطعتها إذا لم تلتزم بشروط الرباعية. وإذا فشلت الحكومة لا تتحمل "حماس" مسؤولية ذلك، في حين أن فلسطين بحاجة إلى حكومة وحدة وطنية تستند إلى البرنامج الوطني الذي يجسد القواسم المشتركة، بعيدًا عن شروط الرباعية، وتشارك فيها الأقطاب السياسية حتى تكون قادرة على تحمل المسؤوليات الضخمة التي أمامها.
إن ما يضاعف من أهمية الشراكة الوطنية أن السلطة حتى تتمكن من الحكم بشكل جيد لا بد أن تعتمد – في الفترة الأولى على الأقل - على الطاقم الوظيفي المدني والأمني القائم الذي عينته "حماس"، وخاصة أن اللجنة التي ستبحث ملف الموظفين المدنيين ستمارس عملها خلال أربعة أشهر. أما أفراد الأجهزة الأمنية والعسكريين فمن غير المعروف كيف سيتم التعامل معهم. هذا إذا قفزنا عن سلاح المقاومة الذي ستستخدمه إسرائيل، كما بدأت فعلًا، كذريعة لاستمرار الحصار، وللضغط على الحكومة؛ ما سيجعل السلطة إذا لم يتغير المسار المعتمد كليًا من القيادة والقوى الفاعلة مطالبة بوضع سلاح المقاومة على طاولة البحث، وهذا ما يهدد المصالحة بالانهيار والفشل.
أما بقية القضايا الكبرى، مثل: المجلس التشريعي، وحكومة الوحدة، والإطار القيادي للمنظمة، والمجلس الوطني التوحيدي، والانتخابات، والبرنامج الوطني، فأجلت إلى اجتماع الفصائل، وكل واحدة تحتاج إلى اتفاق تمامًا مثلما قال الرئيس السوري السابق حافظ الأسد تعقيبًا على توقيع اتفاق أوسلو. وإذا لم يتم الاتفاق عليها جميعها فلا يمكن أن نكون أمام وحدة حقيقية.
إن ما يجري قد يعيد السلطة إلى قطاع غزة، وهذا أمر مهم كونه يمكن أن يخفف من معاناة شعبنا هناك، ولكنه لا يحقق مصالحة وشراكة وطنية وتعددية، ولا يفتح الطريق لإحياء القضية واستنهاض الشعب، وإنما وصفة لانقسام جديد قد يتأخر هذه المرة لتغيّر الظروف، ولأن "حماس" قررت أنها غير قادرة على الحكم في كل الأحوال حتى لو فشلت جهود المصالحة الحالية.