"نستقبل وليد دقة في ساحة معتقل "جلبوع"، القادم إلينا من رحلة العزل لمدة شهرين، وهو الذي لتوه أكمل عامه الحادي والثلاثين في الأسر، ويدخل عامه الثاني والثلاثين بكل إصرار على الحياة والحرية والفرح متحدياً السجن والسجان والمرض، متشبثاً بداءه المتأصل فيه داء الأمل.
أسأل وليد في اليوم التالي ونحن نجلس في ساحة السجن نرتشف القهوة ونشعل سجائرنا بشراهة عن حكاية الزمن الموازي وهو عنوان مسرحيته التي خطها وعرضت لسنوات في مسارح عربية ودولية قبل أن تنتبه وزارة الثقافة في الدولة العبرية وتشنّ حربها على هذه المسرحية رافضة تمويلها كونها نتاج جد ارهابي فلسطيني متهم بالقتل.
وهذا بالطبع لا يبعث على الدهشة أو يثير الاستغراب، خاصة وأنّ وزيرة الثقافة وسيدة اليمين الفاشي في اسرائيل السيدة المصون قدسّ الله سرها ميري ريغيف لا يمكنها أن تفهم مضمون هذه المسرحية بأبعادها الانسانية الوجودية العميقة فما بالك اذا كان صاحبها فلسطيني وفوق كل ذلك أسير يقبع في أسره المؤبد بتهمة الارهاب.
المهم يشرح لي وليد عن الزمن الموازي وهو ببساطة يصف زمن الأسر بأنّه زمن مختلف وأنّه لا علاقة له بالزمن الفلسطيني ولا بزمن البشر العاديين وإنّما يتحدث عن ساعة زمنية تخص الاسير وحده واذا شئنا التحديد تخص الأسير الفلسطيني في معتقلات "اسرائيل".
ففي هذه الاكياس الإسمنتية الغريبة لا يقاس الزمن بالأيام او السنوات وإنّما بالأحداث الصغيرة أو الكبيرة التي تخص عالم الأسر، وفي هذه اللحظة الزمنية في مكان اسمه السجن حياة روتينية مليئة بتفاصيلها الدقيقة (العدد، الرياضة، الفورة، القيلولة ،الجلسة ،الكتاب ،الزيارة، نشرة الاخبار الثانية ،محامي ،تنقلات ،أسرى جدد ، أسرى محررين، بوسطة الخ).
ولا يكسر هذه الدائرة المغلقة سوى بعض الأحداث الاستثنائية بحيث يغدو الزمن لا قيمة له ولا وزن تتشابه الأيام وتمضي مسرعة في قطار الزمن المؤبد أمّا الزمن الآخر فهو زمن البشر في عالم ما خلف الجدران حيث الحياة الحقيقة وبهذا فإن زمن الأسر لا يتلامس مع الزمن في الخارج إلاّ وقت لزيارة الأهل والزمن الموازي فكرة استعارها وليد من القرآن وهو زمن عالم الجن الموازي لعالم الأنس، في عالم الجن الغير مرأي لا زمان يشبه زمان البشر.
والجن يرون البشر ويتسللون إلى عالمهم يرقبونهم عن قصد لكن زمنهم لا يشبه زمن البشر ولا يتداخل معه عالم غير مرأي وفنتازي وهذا الزمن الذي قاربه وليد مع عالم الأسر المغلق على تفاصيله وخصوصيته وفي هذا العالم الزمن الموازي لزمن لعالم الأنس خارج الأسوار يموت الزمن العادي ويصبح الزمن الموازي خاصة لسجن.
ذكرت وليد بمسرحية الباب لغسان كنفاني الذي عالج قضية الزمن لدى أبطال المسرحية بعد موتهم حيث وضعهم الاله هبة في مكان أشبه بالبرزخ بين عالمين عالم الحياة التي عاشوها بين البشر وعالم ما بعد الموت والحساب.
وفي هذا المكان الوسط ثمة زمن آخر مختلف وكانت عقوبة أحد الأبطال أن يقوم كل يوم بحياكة ثوب بينما عقوبة الآخر هي أن يعد الغرز في هذا الثوب وفي نهاية اليوم يقوم الحائك بنسل خيوط الثوب الذي حاكه ليقوم في اليوم التالي بإعادة الكرة هو والبطل الآخر وهكذا بلا نهاية.
حدثت وليد أيضا عن كتابي الذي لم يصدر بعد وهو بعنوان جدلية الزمان والمكان في الشعر العربي، حيث انطلقت من أساس زمن الأسر ومن ثم انطلق وليد لمسرحيته ولكن درست الشعر العربي قديمه وحديثه، بما يخص قضية الزمن والمكان واستخرجت عدداً من الانماط بما فيها الزمان في الأسر الذي قاربه الشعراء العرب ومن أهمها الشكل الدائري للزمن وهو الأكثر ملائمة لوصف زمن الأسر.
أعود للزمن الموازي لمسرحية وليد والتي لم اقرأها بعد ولكني شاهدت فصلاً من فصولها أمامي وفهمت مغزى فكرة وليد عن الزمن وأروي لكم هذا المشهد بعد يومين من قدوم وليد إلينا من قسم 5 في "جلبوع" حضر عدد من الأسرى القدامى من القسم "4" زيارة لمدة ساعتين للسلام على وليد.
وأذكر اسماءهم صالح أبو مخ وإبراهيم ابو مخ وهما ابنيّ مجموعة وليد مسجونين مثله منذ 31 عاماً، وماهر يونس وأمضى الى الآن 35 عاماً وعلاء البازيان، وهو أسير ضرير وأمضى قرابة الثلاثين عاماً قبل أن يتحرر في صفقة "شاليط "ويعيد الاحتلال اعتقاله، وكذلك عدنان مراغة وهو أيضاً أمضى قرابة ربع قرن ومن محرري الصفقة.
في الساحة خليط بين الأسرى بعضنا من أمضى ما بين 13 عاماً إلى 15عاماً برفقة مجموعة من الأسرى الذين باتوا يعرفون بالأسرى القدامى نستمع إليهم وهم يتحدثون بعفوية ويخلطون الأزمنة ولا تدري عن أيّ محطة يتحدثون، ولن يذكر أيّ منهما عام بعينه لامعنى للسنوات والشهور والأيام في لغتهم يروون لبعضهم بعض الأخبار أو الاخباريات الخاصة بالأسر وبعد الشجارات الخاصة بعالم هلامي في مخيلاتهم عن خارج الجدران عن الامهات والعائلات والامراض والاطفال الذين كبروا ولا تدري من اين تبدأ الحكاية ولا كيف تنتهي وفي أي عام حدثت هذه الحكاية وفي اي عام تحدث احدهم للأخر ولا متى أصيب فلاناً بالمرض ومتى تحرر علاناً من المعتقل.
يحدثهم وليد دقة عن مرضه ويصف لهم بسخرية الطعم اللذيذ لجرعات الكيماوي التي يتلقاها بين الفينة والأخرى ويأتي دور صالح أبو مخ، بحضوره اللافت ويتحدث هو الآخر عن حياته و مرض السكر الذي يلازمه منذ أكثر من ربع قرن إنما يقلب البازيان رأسه محاولاً ملاحقة الأسواق المختلفة محاولاً تحديد هوية صاحبها، وفي هذه اللحظة شرد ذهني إلى عالم الزمن الموازي وراودتني الفكرة وأنا أطل من زمنهم لزمن آخر موازي لعالمهم.
وأنا الأسير الذي يكمل لتوه عامه الرابع عشر في الأسر وحولي أسرى شبان لم يكملوا بضعة أشهر، فهم ينظرون إلينا وهم أيضاً لهم زمنهم الموازي وهي فكرة موازاها أننا نحن الأسرى، بات لدينا عوالم وأزمنة توازي بعضها بعضاً ونحن جميعاً في قلب الأسر أزمنة أشبه بحلقات الأشجار، كل دائرة تحيط بدائرة أصغر منها وفي المساء ينهض الجميع يودعون بعضهم البعض بشكل اعتيادي لا مشاعر خاصة لا في اللقاء ولا بالوداع ولا لحظة.
* مقالة للأسير كميل أبو حنيش، عن حديثه مع الأسير وليد دقة..