يدخل يوسف عوض غيبوبة حكاية التشرد الفلسطينية من مكان البياض المكتمل مارا في لوحاته الخمس والثمانين ليصل إلى البياض الذي بترته تشكلات التخطيط لتصير خطوطا موسومة بكلمة مخيم، وهذا المعرض الذي عمل عليه عوض منذ ما يقارب الخمس سنوات يأتي نتاجا لتداخلات العام والخاص ليس في المخيم فحسب بل تجاوز ذلك إلى الدخول في المنازل التي لا يصلها ضوء الشمس فوصلها يوسف متخفيا عبر أيوب ذلك الشخص النحيف والذي ارتفعت عظام كتفه بجانب رأسه ليظهر في أيقونة خاصة مرنة قابلة للطي والانثناء، صامته على كل ألم مرنه على كل مسرب يريد صاحبها تشكيلها فيه.
فأيوب الذي ولد في العام 2006 يسرد لنا قصة التشرد التي مر بها الفلسطيني مرة حاملا شخصية الجيل الأول الذي خرج يحمل مفتاحه متأملا بعودة قريبة وغياب لن يطول وأخرى حاملا صليبه.
وتأتي هذه المقالة عن بعض المشاهدات البصرية التي قدمها ملح ليس في لوحات جميلة كما يروق للمشاهد وصفها، بل بوخزات وغصات تجعل من الألم يسافر ليس في المشهد البصري للمتلقي بقدر ما تتحول هذه الغصات إلى ومضات من الوجع الذي يجتاح الذاكرة، فاللوحة ترجع مع المتلقي إلى البيت ليعد تدوير المأساة كما فعل يوسف حين تلقى المأساة، فيوسف الذي استخدم التاريخ والفيديوهات كمعلم له يعيد تقديم المأساة بشكل آخر من الوسائل والتي لم تتجاوز الأوراق البيضاء وأقلام الرصاص.
أولا: الإبرة من الخاص إلى العام ثم الخاص:
ظهرت الإبرة في ملح في عدة مواضع مختلفة وبدلالات مختلفة تجعل منها قميص يوسف الذي كان مرة أداة للكذب ومرة للبراءة وأخرى للشفاء وإبرة يوسف ليس من هذا ببعيد، فالإبرة التي طالما وجدها الصغير في مقتنيات أمه بقرب الدبابيس وكرار الخيوط ظهرت في لوحة كما هي تعبيرا عن آلام إلا أن ذلك لم يجعل من يوسف أن يتردد ليحولها إلى رمز للموت أو القتل في اللوحات التي أظهرت أحداث النكبة ليعيدها بعد ذلك تعبيرا عن الاغتصاب الذي تعرضت له لاجئة فلسطينية في مخيمات الشتات وجاءت لتروي الحكاية، ومرة أخرى تعبيرا عن مرض السرطان الذي لم يتعاطف مع لاجئة أخرى حرمها صفتها أنها لاجئة من حقها في العلاج.
[gallery ids="128581,128582,128583,128584,128580,128575,128576,128577,128578,128579,128574,128573"]ثانيا: أيوب الراوي المرن والحارس الأمين:
تجده في معظم اللوحات شاهدا على كل حدث مرة قتيلا أو يكاد، ومرة أخرى تراه يتثنى على نفسه ليتلاءم مع ما أتيح من المكان، فيوسف الذي عبر عن ذاته في أيوب في فترة الخروج قدمه للمتلقي صاحب المسؤولية الذي لا يطول به الأمر، فإذا به يهوي وقدمه هذه الشخصية الحنانة التي لم يغفر لها حنينها إلا أن تعيش انفصاما بين مخيم حرمه المكان من التعاطي معه كما يليق به فهو يقرأ مثني الرجلين ويشاهد التلفاز كذلك وهو الذي يستمد الشمس عبر أنبوب الجلكوز الطبي فالشمس في الأزقة تتمنع الدخول لتجعل من حبل غسيل المخيم شأنا آخر.
أيوب الراوي الأمين الذي تحرك ولم ينس مرحلة من المراحل وإن سكت عنها بلسانه، فإن انحناءه وعظامه البارزة لا تخبر شيئا إلا عن أزمة المخيم التي جعلته قابلا لتحمل الدعسات الصوتية يوم الجمعة وجعلته مقطوع اليدين إذا ما خرج من هذا المكان الذي تفاعلت تركيباته معه، أما أنه حارس أمين، فهو الذي لم يتمهل في أي مرحلة من المراحل ليكون طيِّعا أمام صلبه ونزوله، وهذه الصفة في أيوب لم تكن حادثا عابرا بل إنها كانت في معرض الموت الفجائعي من الفنان عام 2006 وكذلك خروج الذي وافق العام 2010.
ثالثا: الطلاسم: متاهة الحلول وحتمية الألم
تظهر في لوحات عدة إشارات الممنوع والطرق الملتوية والتي تدخل المتلقي في تساؤلات من قبيل إلى أين وكيف ولماذا، ‘لا أن كافة هذه الأسئلة تردنا إلى ألم وفجيعة ففي كل جولة يذهب بها عوض إلى السباحة في طلاسم الحلول التي كانت مرفوضة قبل طرحها يعود بنا إلى صفعة ذات ملح مركز يقف في حلق الملتقي يذكِّره أن الواقع الذي اشتغل على الحكاية الفلسطينية لم يكن ليناسب طموح أيوب فالغربان السوداء التي حطت على مفتاح العودة في وسط السلسلة غادرت في اللوحة قبل الأخيرة إلا أن المفتاح صار مهترئ وقابلا للزوال.
[gallery ids="128585,128586,128587,128588,128589,128590,128591,128592,128593,128594,,"]