مقدمة
لطالما اعتبرت "أغاني أرض إسرائيل" ضرباً ثقافياً من كتابة التاريخ فوق تاريخ ماديّ فلسطيني، بل هي تشتمل على سلطة الإجهار والإسكات في الآن ذاته؛ الصمت والثرثرة، والرمز الاستعماري الطوباوي، وذاكرة المكان والبطل والضحية. يمكننا البدء في هذه الورقة البحثية على وقع الأسئلة التالية: هل الأغنية القومية بيان سياسي؟ كيف يكون الائتلاف بين السياسة والفن؟ وهل تقع على تخوم الأيديولوجيا السابقة للواقع، أم الواقع السابق للأيديولوجيا؟ وهل تتكدّس لتمثيل اليهودي الأشكنازي حصراً؟ وكيف للأدباء أن ينحتوا ذاكرةً من لحظة الصفر فيها؟ هل يمكن أن ندرسها ضمن الثابت والمتحوّل؟ وهل بظهور حدود اجتماعية جديدة، وهوّيات متجدّدة، باتت الأغنية القومية تستجيب لاستنساخ تواريخ وذكريات جماعية أبوية تحكي من جديد تاريخ الدولة بأكملها والجماعة ذاتها؟ وأخيراً، أين الفلسطيني من كل هذا، وما هي حدود تبيانه وشطبه؟
هذه الأسئلة الأوليّة- التي سنحاول الإجابة عليها قدر الإمكان في هذه الورقة- تدفعنا للقول إن الموسيقى ملوّثة بالسياسة، بل كما يدّعي Philip Bohlma إن "علم الموسيقى هو حقل مسيّس بامتياز"،[1] وقد تحمل الأغنية افتراضات ثقافية تكون في كثيرٍ من الأحيان غير مرئية.
لا شكّ أن الصهيونية باعتبارها حركة قومية- استعمارية جعلت أغنيتها القومية مختلفة تماماً عن الرائج في القوميات الأخرى، إذ إن ثقافتها الموسيقية منحوتة من الشوق الديني الكامن للعودة إلى "صهيون" بعد"التيه في المنافي"، وتأثير التنوير على اليهود الأوروبيين منذ النصف الثاني من القرن الثامن عشر، وما تبع ذلك من تبني مفهوم "الدولة القومية" كحلّ لـ"معاداة السامية الحديثة". لذلك، كان لا مناص من "صناعة هوية وطنية علمانية، كإحلالٍ عن التقييد الديني كأساس وحيد للهوية اليهودية مع الحفاظ على أسسها "العرقية/العنصرية" الأساسية، مادّتها الخام "شخص عبري جديد" مجرّد من الشروط المادية والثقافية النمطية التي صادفت الأنتلجنسيا اليهودية، لنكون أمام رأس مال ثقافي مشكّل وفقًا للمفاهيم الرومانتيكية والشرقية المتأخّرة عن الأصالة والأصلنة"[2].
كانت الموسيقى باكورة تلك الفلسفة القومية، بجانب الملصق والشعر والمسرح، إذ كان عصرها الذهبي مؤطّراً بين 1920- 1960؛ أيّ في الفترة التي كانت الصهيونية تصارع وجودها، فالوجود اليهودي كان لا يزال هشَاً وسيالاً ومشتعلاً. وكانت الصهيونية بحاجة إلى الرمز والإيجاز والمجاز عبر الأغنية للذهاب نحو "أصلنتها" مع المكان، وحتمية الوجود لا التشكّك أو الريبة منه، ثم الحاجة إلى منظومة قيم وانتماء أشبه بـ"الصنمية الشاعرية" للهوية الصهيونية ما بعد "الدولة"، وتحديداً في التأريخ لإرث الحروب والمعارك الوجودية، وتحوّلات الوعي التي تحدثه. اللافت هنا أيضاً أنه على الرغم من الوعي النشط بضرورة الفصل بين الثقافة الصهيونية والمخزون اليهودي الشتاتي، إلا أن العلاقات بين تلك الثقافة والإرث اليهودي و"الشتات" لا تزال معقّدة حتى يومنا هذا.
سأسعى في هذه الورقة لقلب المنطق التقليدي نوعاً ما، بمعنى أنّني سأبدأ بأغنيات الذهاب والإياب حول الحرب والذاكرة، ثم أنهي بأغنيات المكان من واقع سلطة السيطرة عليه وترويضه، وأنّه أمّ البدايات والنهايات بالنسبة للصهيوني، وإن كان ذلك يعني البدء من زمن لاحق وصولاً إلى باكورة الزمن، وذلك عبر الاستفاضة في تحليل نماذج من الأغاني عكفت الباحثة على ترجمتها من العبرية.
أولًا: في البدء كان... بابُ الواد
من هنا أمرّ، واقفاً بجانب الصخرة/ طريق أسفلتي أسود، أحجار وجبال / ببطء تسقط الأمسية ويهبّ نسيم البحر/ عند سطوع أول نجمة فوق بيت محسير/باب الواد/ للأبد أذكرْ أسماءنا/ القوافل فتحت طريق المدينة/ وفي هوامش الطريق أمواتنا مرميون/ ويصمت هيكل المدرع الحديدي كرفيقي/ هنا تحت الشمس القطران والرصاص يغليان/ هنا مرّت ليالٍ من النار والسكاكين/ هنا تسكن معاً الحسرة والعزّة/ هيكل مدرع متفحّم واسم مقاتل مجهول/ باب الواد../ وأنا أتمشّى وأمرّ من هنا بصمت/ وأذكرهم تماماً واحداً واحداً/ هنا قاتلنا معاً على الأجراف والصخور/ هنا كنّا أسرة واحدة/ باب الواد.../ سوف يأتي يوم ربيعي ويزهر عصا الراعي/ ويملأ أحمر الشقائق الجبال والمنحدرات/ ومن ذهب على الطريق الذي تمشينا عليه/ يجب ألا ينسانا، نحن باب الواد.
هذه الأغنية هي ذاكرة الموتى الصهاينة التي يستعيدها المقاتلون الأحياء، ويوضّبونها في ذاكراتهم على هيئة أيديولوجيا، وذلك ارتباطاً بأنّ التذكّر والنسيان هما جزء من الهيمنة وبناء القومية. وبكلمات الباحث الإسرائيلي يتسحاق لاؤور، "فلقد أوجد أيديولوجيو الدولة القومية ذاكرة الموتى الذين يحمل رسالتهم ويواصل دربهم المقاتلون الأحياء: أي الأيديولوجيون."[3] في أغنية "باب الواد" يتجاوز الفعل التذكري "الذاتي" نحو "الجمعي"، بل يحمل في طياته أبعاداً ثلاثة؛ وهي الماديّ والرمزي والوظيفي بحسب بيير نورا، خصوصاً أن الموت في المغناة ليس موتاً فردياً خاصاً وعينياً للمقاتل الصهيوني، بل هو مقدّم على مذبح القومية. إنّه الفناء والاحتراق من أجل المجموع الصهيوني، والخسارة التي لا بدّ منها؛ خسارة القدس وخسارة الإنسان، إذ قال رئيس الوزراء الصهيوني ديفيد بن غوريون، آنذاك: "لقد خسرنا في معركة باب الواد وحدها أمام الجيش الأردني ضعفي قتلانا في الحرب كاملة"[4]، إذ قُتِل المئات وجُرح الآلاف، فيما لم يخسر الجيش الأردني سوى 20 جندياً.
[embed]https://www.youtube.com/watch?v=Jqsmy_ZQ7II[/embed]
هنا، ينفتح حاييم غوري، كاتب المغناة، على الدمّ والنار والعزاء الكبير كي يقول للوعي الصهيوني إنّ التضحيّة هي المعادل الموضوعي لبقاء الدولة، بل إن الذاكرة الصهيونية يستوجب منها أن تنحت "باب الواد" بأسطورته إلى أجلٍ غير مسمى. المغناة أيضاً هي محاولة الاستئناف على الصمت الذي حلّ بالمكان بعد المعركة، واستنطاقه على لسان "الضحايا" المجهولين.
أدّت شوشونا دماراي هذه المغناة عام 1949، ولاحقاً يافا ياركوني الملقّبة بـ"مغنية الحروب الثلاثة"، إذ اعتبرت "أغنية أسطورية مرتبطة دائماً بالصهيونية والبطولة والاستقلال، وصورة اليهودية الجديدة، والهوية الصهيونية التي تحارب من أجل بلادها."[5] كأنّ حاييم غوري كتب هذه القصيدة كي تكون أشبه بوخز دائم في الضمير للباقي الحيّ، حتى يكون أميناً على ذكراهم ومآلهم، خاصةً أن "باب الواد" كان الطريق الأقرب إلى خلاص اليهودي في القدس بمعناه الدنيوي المجازيّ، وذلك في ظلّ السيطرة عليه من قبل المقاتلين الأردنيين والمناضلين الفلسطينيين آنذاك، إذ كان من المستحيل الحصول على قوافل من الغذاء والماء والدواء لليهود في القدس دون تضحية ٍ صهيونيةٍ من حديدٍ ونار تنسكب على الطريق، خلال النصف الأول من "حرب الاستقلال"، خاصةً أن المقاتلين الفلسطينيين والأردنيين عكفوا، خلال شهر آذار من العام 1948، على تخريب الطرق وإتلاف الأنابيب التي تمدّ الأحياء اليهودية في القدس بمياه الشرب، كما أخذوا يتصدون للقوافل الصهيونية المحروسة التي تمرّ بباب الواد مرّةً في الأسبوع، ويوقعون بها الخسائر الفادحة، أو يمنعونها من متابعة طريقها.
كذلك، فإن مغناة "باب الواد" هي نوع من "السجود للحرب كمؤسسة طبيعية في الحياة الاجتماعية، ووسيلة إشعار الصهيوني بذكورته وشجاعته، وتحرر الإنسان من ذاتيته وانكفائه على نفسه، وتدفقه في غمرة من السمو بالنفس نحو الاندماج القومي."[6] الحرب كعنصر تربوي ولاصقة قومية ومحرّك اقتصادي هي أمر ضروري يجب أن يدفع فاتورتها الجميع، بل تشغّل أيضاً طنجرة الضغط وبوتقة الصهر، بتعبير دان ياهاف[7].
كما يضطلع هنا غوري- شاعر جيل 1948 البارز- بفكرة أن "نطاقي الوعي التاريخي، وهما "التاريخ" و"الذاكرة" (بمفهوم الأسطورة) متشابكان ومجهودهما المتواتر للانفصال محكوم عليه بالسيزيفية"؛[8] بمعنى النسيان الآثم في "باب الواد"، مقابل التذكّر الأسمى غير المقتطع لإحدى الهوّيات المجهولة من القتلى (وأذكرهم تماماً واحداً واحداً)، وذلك على العكس تماماً من النسيان المنظّم، وفداحة التذكّر أو التذكّر المبتور من سياقه حينما يتعلّق الأمر بالفلسطيني، خوفاً على صورته - أي صورة الصهيوني - أمام مرآته حينما يجلد ذاته، ويطهّر نفسه من نافورة دمٍ/ مجزرة أوشكت أن تبتلع نقاءه واتزانه الداخليين، ليس إلاّ، وهو ما نلحظه كثيراً في الأدب الإسرائيلي الذي يعترف مؤلفوه ببعض جرائمهم إزاء الفلسطينيين، ليمنحوا أنفسهم براءة التائبين، خوفاً من العيش في صراعات نفسية على شخوصهم، وليس خوفاً على الضحيّة، وذلك مثل رواية "خزعة" ليزهار سميلانسكي
لا يمكن قراءة جماهيرية "باب الواد"، بمعزل عن شخصية كاتبها، إذ أنّه لطالما مثّل "الرقيب لبيت إسرائيل"[9]؛ يصوّب نظره تجاه شعبه، آخذاً من نفسه ومن شعره لساناً باسم "الدولة" والمجتمع القومي، ومنخرطاً في الحديث عن التحديات والأزمات والطوارئ القومية والممتدّة على شريط زمني طويل.
صحيحٌ أن مادّة شعر جوري- عامةً- من قماشة الحزن الدفين والحسرة على ضحايا الحرب "(للأسف لم نكن شاهدين على تلك الحادثة/ لم نرَ العظام اليابسة وهي تدنو- تحدّ بعضها البعض/ بعد طول مدّة تنبت الأوتار واللحم والجلد أمام ناظريها)"[10]- لكنها في الآن ذاته لا تخلو من فداحة القوّة والرغبة والأمل (سوف يأتي يوم ربيعي ويزهر عصا الراعي).
وصحيحٌ أيضاً أن غوري تحدّث عن الموت دون مواراة، وأشار إلى ذلك الطابور الطويل من القتلى الذي لقوا حتفهم في المعارك "(انظر هنا ملقاة جثثنا في طابورٍ طويل طويل/ تغيّرت وجوهنا، الموت يطلّ من أعيننا، لا نتنفس)"،[11] وذلك على العكس من كثير من شعر ناتان ألترمان الذي لجأ إلى أسلوب الصمت عن استنطاق ضحايا الحرب، غير أن غوري يعود ويستأنف على صورته بكونه شخصية المثقف القوميّ، حينما يغدق على الجنود القتلى بالحياة في دورةٍ جديدة، لكن عودتهم للحياة لن تكون بدورةٍ طبيعية وصورة مألوفة، بل في شكلٍ جديد من خلال قيام الدولة "(يوم جديد، لا تنسى، لا تنسى/ حيث حملنا اسمك حتى أغمض الموت أعيننا/ وولد الصبح وترنمت نضارة الكل/ نرجع ثانية، نلتقي، نعود كزهور حمراء)."[12]
اللافت أيضاً أن غوري، كما زملائه يزهار سميلانسكي وموشيه شامير وأمير جلبوع ويتسحاق شاليف وناتان يوناثان، كان قد قاتل في "البلماح" وتحديداً في "كتيبة النقب". ويقول عن ذلك: "كل هذا خلق واقعاً معاشاً بالغ العنف، كنت جزءاً منه عندما تطوّعت للبلماح. وأنا في الثامنة عشرة، انضممت للعنف. كنت مقاتلاً، كنت مع الناس، لم أكن مراقباً حيادياً، أنا حرب أهلية"[13]، كما وصفه زعيم "البلماح" المعروف، يجآل يادين في كتابه "كتاب البلماح": "تميّز جوري كشخصية جماهيرية رائدة بين أبناء جيله، غلام غضّ، رقيق، محارب، وممثّل للبلماح في الأدب الإسرائيلي، شاعر زهوره من نار، وناره من زهور".[14] هذه الكلمات تذهب بنا إلى خُلاصة العزاء الكبير الجمعي التي نثرها في مغناته "باب الواد"، من واقع سُلطة الحاضر المشارك لا المتفرّج، خصوصاً أن المعركة كانت حاسمة ومركزية في مسار "حرب الاستقلال" عام 1948، وانتهت بالهزيمة أمام المناضلين الفلسطينيين والجيش الأردني الذين حرّروا القدس بأكملها آنذاك.
كما لا يمكن عزل مركزية هذه المغناة لدى الجمهور الصهيوني عن السياقين التاريخي والجغرافي لمعركة باب الواد، إذ إن الأخير لطالما اعتبر مفتاح القدس، وحلقة الوصل بين السهل الساحلي والمدينة المقدسة. وكان قد "فطن العرب والصهاينة إلى أهمية موقع باب الواد منذ اللحظات الأولى بعد صدور قرار التقسيم عام 1947. وتهيأ الصهاينة لغزوه من السهل الساحلي لضمان مرور قوافلهم إلى القدس، وعمل العرب بالمقابل على قطع الطريق عليهم، فتنادوا لشراء السلاح، وتجمع المقاتلون من قرى عمواس ويالو ودير أيوب، وبيت نوبا وبيت محسير وساريس".
كما تكمن أهمية المغناة في كونها "نصاً مؤسساً في ثقافة الذاكرة الصهيونية وممارستها"،[15] على اعتبار أن الدولة منذ تأسيسها أصبحت محتكرة للذاكرة، وأفلحت فيما لم تنجح في إنجازه حينما كانت "دولة على الطريق"، فضلاً عن تأريخها لملحمة سيزيفية بتوقيع صهيوني من وجهة نظر غوري الذي لم يتنكّر للخسارة الكبيرة، فمع اقتراب شروق الشمس، كان جنود المعركة يعودون ويحملون رفاقهم القتلى والجرحى. كان في كل يوم ثمّة طابور جنائزي، قبل أن ين