لست بحاجة لأن تكون فنانًا كي تُمارس "فن التبديد"، فما أكثر أهل هذا الفن في زماننا ممن يستيقظون باكرًا يوم العيد، يلبسون أحسن ما عندهم من ثياب ويخرجون إلى صلاة العيد بكُل أدب وخشوع وتكبير وتعظيم لله، وبكل أدب يحيّون هذا وذاك ثم يتبادلون التهاني لينطلق كُل منهم إلى بيته ليقدّم أضحيّة تُقرّبه إلى الله تعالى، ولأن برنامج العيد مُكتظ وحافل، تجد البعض -وليس الجميع- يُحاول أن "يَخلص" من هذه المهمة، ليتزيّن بأجمل ما عنده من الثياب والعطور وينطلق في زياراته وبرامجه، مُتجاهلًا ما ترك خلفه من "كوارث"!
الكارثة كُل الكارثة، أن تجد بعضنا يحمد الله على أداء الطاعة، ثم يبدأ بوصف الأضحية ووزنها، فينتقل إلى الفخر بما تبرّع منها وينسى أو "يتناسى" أنه ترك دماء الأضحية تنساب في الشوارع دُون رقيب ولا حسيب، لا يُبالي أي الميكروبات والأمراض يُمكن أن تسببها فعلته الشنيعة وهذا كُله غير الروائح الكريهة، ومن يتصفح أخبار العيد سيجد وابلًا من التحذيرات من إلقاء المُخلفات في "بالوعات" الصرف الصحي، وهذه كارثة قد تُعطل شبكة الصرف لساعات، ولستُ بحاجة أن أفصّل عمّن يخرج بنفسه مُحملاً ما عنده من مُخلفات ليلقيها في "الطبيعة" أو في أرض لا يراه أصحابها.. لتنتشر روائحها الكريهة طيلة أيام العيد، بينما رائحة "صاحبنا" تفوح بالعطور.
من يفتح كتابًا مثل "معالم القربة في طلب الحسبة" الذي كتبه ضياء الدين القرشي "ابن الاخوة" قبل 800 عام، لا بُد أن يُدرك وهو يقرأ فصل "الحسبة على الجزارين" أن هناك ما هو أخطر بكثير من النقاشات التي تُثار هذه الأيام حول "حكم قص الشعر والأظافر للعازم على الأضحية" الذي يتفنن أصحاب الأضاحي في طرحه والتشدد والتشدق فيه أحيانًا، مع أن المسألة فيها أخذ ورد ورأي واجتهاد وهي "سنّة" وليست "فرض" أو "شرط"، أما المسألة "الخطيرة" التي رأى "ابن الاخوة" ضرورة منعها هي ذبح القصابين على أبواب دكاكينهم لأن ذلك "يلوّث الطريق بالدم والروث" ويسبب "اضرارًا بالناس بسبب ترشيش النجاسة" التي "قد تلاصق ثياب الناس فيضررون بها" ولهذا كان من الضروري على المُحتسب -مراقب الأسواق- أن يأمر القصابين بالذبح في المذبح كي لا يتضرر الناس!
الأكيد، أن المُشكلة لا تكمن في أن "النظافة من الإيمان" أو "لا ضرر ولا ضرار" كما يُذكرنا المشايخ دائمًا، فتبديد ما في الأضحية من "نعم الله" هو كارثة أخرى لا نُلقي لها بالًا في زمن السُعار الاستهلاكي حيث فقدت مجتمعاتنا الكثير من خبرات التدوير Recycling) ) التي برع فيها أجدادنا، ومن يقرأ كتاب "رحلتي الفكريّة" للأستاذ والمفكر د. عبد الوهاب المسيري سيجده يتحدث عن صعود "نموذج التبديد" مقابل "نموذج التدوير" و"التدهور الجيلي" من خلال مُقارنة طريقة أكل الدجاج بين الماضي والحاضر، فيذكر كيف كانت والدته تتعامل بكفاءة عالية مع كُل أجزاء الدجاج "فتأكل لحمها وتمص عظمها وترمي ما تبقى منها للقطط"، بينما جيل "الشوكة والسكين" يتركون أجزاء كثيرة للقمامة التي هي "أكبر مصادر التلوث في القاهرة المقهورة" كما يقول.
بالعودة إلى عيد الأضحى والخراف وأجدادنا -جدّاتنا بشكل خاص- سنجد الأمر نفسه، فبينما يستغنى كثيرٌ منّا اليوم عن أجزاء كثيرة من الأضحية مثل الأطراف والجلد والرأس والمعدة، فقد كانت جدّاتنا تتعامل مع كُل هذه الأجزاء بكفاءة عالية أيضًا بدلًا من تحويلها إلى "كارثة بيئية" ويكفينا أن نقرأ قصّة مُعاذة العنبريّة التي ذكرها الجاحظ في كتاب البُخلاء كي نُدرك حجم "التبديد" في حياتنا، بل يكفينا أن نُشاهد حلقة "أم الضراير" التي تتحدث عن حكاية طبق يُصنع من أمعاء الأضاحي التي يُبددها أكثر الناس في ايامنا، بينما يُمكن تحويلها لوجبة لذيذة وشهية إذا ما تم تدويرها. بل إن هذه المُخلفات كلها.. ليست إلا كنوز مُبددة لا زال رجال الأعمال عنها غافلون!
المصدر: مدونات الجزيرة