بعد أن خابت الآمال في شراء كتاب قيم بسعر مناسب من معرض الكتاب الثامن، وقع نظري على كتاب كبير يحمل اسم
الأبعاد الصوفية في الإسلام وتاريخ التصوف، لكاتبة أجنبية تدعى آنا ميري شيمل ودار نشر ألمانية. كنت قد فكرتُ بضرورة أن نتوسع بالقراءة عن الصوفيين، وذلك لأن ما نعرفه عنهم هي جملة واحدة مختصرة مختزلة، أنهم أناس تتعبد بطريقة جماعية غريبة أو بالرقص، كعادتنا الإقصائية لم نفكر حتى في قراءة أفكارهم. في الفترة الأخيرة انتشرت في مواقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك "صورة الرجل الصوفي الذي يرقص ومعها اقتباسات صوفية جميلة، كان تساؤلي هل يعلم الجميع عن هذا المتعبد الصوفي؟
قد تكون فكرة أن نقرأ لكاتبة أجنبية تتحدث عن الإسلام مستهجنة عند البعض، لذلك تتكرر الأسئلة حول رأي المستشرقة ميري شيمل في الإسلام وفي الصوفية وطريقة توصيفها لهم. لم يكن هذا إلا وليد الفكرة التي تربينا عليها والتي تنافي الواقع وهي وجود معنى واحد وحقيقة واحدة وفهم واحد نحاكم من خلالها كل شيء، والمعنى الآخر أو الفهم الآخر يتم إقصاؤه ومحاربته والبحث عن كل الطرق من أجل إلغائه. ميري شيمل قرأت التجربة الصوفية كفرد من داخل الأمة الإسلامية غير منتمية لأي فئة أو تقسيم، فكان توصيفها غير تبريري فلم تبرر الأفعال التاريخية المجحفة بحق بعض المتصوفة أمثال الحلاج والسهروردي بغض النظر عن التقسيم الذي ينتمي القاتل إليه. قُتل هذان الشخصان بحجة انحرافهما الفكري، غير أن قتلهما لم يكن إلا على خلفية سياسية، فالأول قتل من أجل ريادته لحركة صوفية إجتماعية تثور على الحاكم وسمي بشهيد الحب الصوفي، ومات السهروردي في السجن عن عمر يناهز الثمانية والثلاثين، بعد أن أقنع الفقهاءُ الملكَ الظاهر بخطورته فسجن.
تتبعتْ شيمل الحركة الصوفية منذ بداياتها، وصنفت الصوفيين حسب موقفهم من اتباع الشريعة، والحقيقة أن غالبية الصوفيين لم يكونوا في موقف ضدّي مع الشريعة؛ فالشخصية الصوفية الأولى بالنسبة لهم كانت النبي محمد – عليه الصلاة والسلام - واعتبره ابن عربي الإنسان الكامل الذي تجاوز المراحل الصوفية جميعها، لكن الإشكال الحاصل لاستخدامهم مصطلح المحبة في وصف التواصل الروحي، الذي قامت عليه الصوفية، وتطور المصطلح لتصبح كل مصطلحات العشق الدنيوي تستخدم في العشق الإلهي. ومما رفضه السنيون المتشددون (كما أسمتهم شيمل) أيضا مساواة بعض المتصوفة الفرائض بأعمال أخرى مثل مساواة فريضة الحج بإطعام فقير، أو إدعاء البعض الآخر في عدم حاجتهم للفرائض لوصلوهم لمرحلة يرون الله في كل مكان .
وقف الصوفيون الأوائل في ضدية واضحة مع الحاكم، حتى أنه بعضهم كان يسأل إن كان النسج على ضوء موكبه محرماً أم لا، لكن هذا لم يستمر ففي التتبع التاريخي للحركة الصوفية في الكتاب خاصة المرحلة التي وصلت الصوفية فيها لتأسيس الخانقاة الصوفية، تم دعم هذه المؤسسة التي يرأسها الشيخ من قبل الحاكم أو من أموال الصدقات والزكاة، مما جعل بعض الشيوخ يدعون الزهد ويغتنون في ذات الوقت من الأموال الداعمة للخانقاة، ومن هنا نلحظ الإنحراف الصوفي والتحول من الحركة الروحانية الفردية ذات الهدف السامي، إلى الإستغلال المادي للفكرة وحامليها. ومن مظاهر الإنحراف التي ظهرت الوصول لمرحلة تقديس الشيخ وضرورة موافقته حتى في الخطأ، هذا ما لا يمكن قبوله في ظل دين لا يقدس سوى الله سبحانه وتعالى، وقد تضخمت فكرة قداسة الشيخ من خلال الكرامات (أمور خارجة عن المألوف تحدث مع الشيخ) التي اعتبرها بعض الصوفيين الأوائل ملهاة تصرف المرء عن الطريق الحق.
واللافت للنظر هو أن تفسيرات الصوفيين للحكم الإلهية من بعض الأمور تختلف عن التفسيرات العادية، فهي تفسيرات تخرج إلى عمق الأمر، ومن هذا تفسيرهم لأمية النبي محمد فهم يعتبرون أن النبي كان أميا لأنه "لا يصلح لكلمة الله إلا من لم يدنس قلبه بالعلم العقلي" ، قد يكون المقصد هو أن النبي وصل روحانيا إلى الله دون أن يبذل مجهودا عقليا للوصول إليه، أي أنه وصل لليقين القلبي من خلال تجربته الروحانية في الغار، لا من خلال مجادلات فكرية ومنطقية.
وعلى الرغم من أن غالبية أعلام التصوف الإسلامي كانوا من الرجال، إلا أن حضور المرأة أخذ سمتين أساسيتين وهما الحضور كصورة للجمال الإلهي كما أشار إليها ابن عربي في ديوان ترجمان الأشواق، والحضور الثاني كان حضورها كمُشاركة في الحراك الصوفي وفي مسيرة العشق الإلهي، ومن أوائل الشخصيات النسائية كانت رابعة العدوية، إضافة لعدد من الشخصيات على مر العصور.
وكما قالت شيمل بأن الكتابة عن الروحانية في الإسلام صعبة لاتساعها، فليس من السهل أن نعطي صورة إجمالية عن كتاب فيه زخم معلوماتي عن الحركة الصوفية كاملة عبر التاريخ، ولكن من الأسف أن يكون الكتاب الذي يمكن أن يعتمد عليه كمرجع في معرفة تفاصيل الحراك الصوفي كان من إنتاج مستشرقة ألمانية.