"حاجز قلنديا العسكري" الذي بات أقرب إلى معبر دولي بحجمه وتعقيداته، كان قد بدأ بجندي واحد يترجل الجيب العسكري ويقطع الطريق على الناس لبعض الوقت، ثم أضيف إلى الجندي مكعب اسمنتي يوضع في منتصف الشارع؛ ثم مكعبات أخرى و " عريشة" يستظل تحتها الجندي، حتى تطور إلى الشكل القائم اليوم.
ردة فعل الناس على قطع الطريق منذ أن بدأ بجندي، كان الالتفاف والبحث عن طريق بديل. وقد قمنا خلال الانتفاضة الثانية بشق شبكة طرق بديلة في الجبال المجاورة للحواجز العسكرية، ورغم مشقة ذلك لم نحاول أو نصر ولو مرة واحدة على حقنا بعبور الطريق الرئيسي مهما يكلفنا ذلك.
والمثير للسخرية في تلك الفترة، أن الجندي نفسه الذي يقطع علينا الطريق كان يرانا على بعد مئات الأمتار منه ونحن نسير في الطرق البديلة دون أن يزعجه ذلك أو يحاول منعنا، إلا إذا اختار أحيانا أن " يلاعبنا".
طريقنا البديل هذا له تسمية أخرى أدق، وهي " التعايش"، بمعنى أننا بدل أن نرفض سياسات الاحتلال التفصيلية هذه ونقاومها كجزء من مقاومتنا لوجوده من الأساس، كنا سريعا وتلقائيا نقبل بها ونتعايش معها ببحثنا عن " بديل"، وبديلنا هذا لم يزعج الجندي لدرجة أن يمنعنا عنه، بل العكس، كان يشجعنا عليه لأننا به نرسخ وجوده دون أن ندري. واليوم النتيجة هي حواجز عسكرية راسخة تقسم الضفة إلى ثلاثة معازل رئيسية، وفي أي صدام مفتوح قادم ستصبح جنين بالنسبة إلى رام الله أبعد من المريخ.
" ثقافة التعايش" مع سياسات الاحتلال هي نفسها التي تنطلق منها التحليلات والتفسيرات العبقرية التي نسمعها بعد كل عملية، وهي الثقافة نفسها اليوم التي تقف خلف الخوف من تقسيم الأقصى وفرض سياسات جديدة في القدس، وكأن الأقصى تحت الاحتلال مقسما يختلف عنه تحت الاحتلال موحدا، أو كأن القدس تحت الاحتلال مع تصريح " زيارة" أفضل بالنسبة لنا من القدس تحت الاحتلال دون تصريح زيارة.
هذه الثقافة تعني بكلمات أخرى أنك لا ترفض فكرة الاحتلال بحد ذاتها، وإنما ترفض سياسات احتلالية محددة، أو لنقل أيضا أنك لا ترفض جوهر الاحتلال بقدر سعيك " لتحسين" حياتك تحته.
النضال لشعب تحت الاحتلال ليس تكتيكا ولا حتى استراتيجية، النضال أعمق من ذلك بكثير، أنه ببساطة ثقافة يومية. فقبل أن تفكر باستعادة برتقال يافا عليك أن تعتني بشجرة الزيتون التي في ساحة بيتك. وقبل أن تفكر بتحرير كامل فلسطين عليك أن تنتصر في صراع الإرادات بينك وبين أوامر الجندي على الحاجز العسكري.